ويظهر للخلق أحسن ما عنده ، وينظر إلى نفسه بعين الرضا عنها ، بما أظهر عليها من زينة العبادات ، وينجّس باطنه بمخالفة ما أظهره من الرياء والشهوات ، وسائر المخالفات ، فذاك المشرك في عبادته ، النجس باطنه ، ولا يصلح لبساط القدس إلا المقدّس ظاهرا وباطنا ، سرّا وعلنا ؛ لأن الله تعالى قال : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ، ومن كان نجسا ، فإن الأمكنة لا تطهّره ، وستر الظاهر عليه لا ينظّفه.
وقال الأستاذ : فقدوا طهارة الإسرار بماء التوحيد ، وبقوا في قذرات الظنون والأوهام ، فمنعوا قربان المساجد التي هي مشاهد القرب.
ثم إنّ الله سبحانه وعد العارفين بأن يكسوهم كسوة غنى بقائه ؛ حتى لا يحتاجوا للنظر إلى سواه بقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) : إذا أخرجتم أهل الدنيا من بين سفير الأعلى من المقرّبين الذين نعوتهم الفقر ، وسماتهم التصوّف والعبادة ، ويخطر على قلوبكم انقطاع مواساتهم لكم ، فأنا أغنيكم عمّا سواي ، وأرزقكم من غير وسيلة تحتجبون بها عني.
قال الأستاذ : توقّع الإرفاق من الأسباب ، من قضايا انغلاق باب التوحيد ، ومن لم يفرد معبوده بالقسمة يبقى في فقر سرمدي.
ويقال : من أفلح بعفو وكرم مولاه ، واستمطر سحاب جوده غناه عن كلّ سبب ، وكفاه كلّ تعب ، وقضى له كلّ سؤل وأرب ، وأعطاه من غير طلب.
(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ
__________________
(١) أي : فقرأ بسبب منع المشركين من الحرم ، وكانوا يجلبون لها الطعام ، فخاف الناس قلة القوت منها ، إذا انقطع المشركون عنهم ، فوعدهم الله بالغنى بقوله : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من عطائه وتفضله بوجه آخر. وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ، وأسلمت العرب كلها ، وتمادى جلب الطعام إلى مكّة ، ثم فتح عليهم البلاد ، وجلبت لهم الغنائم ، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض ، وما زال كذلك إلى الان ، وقيده بالمشيئة ؛ لتنقطع الامال إلى الله ، ولينبه على أنه متفضل في ذلك وإن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض ، وفي عام دون عام. البحر المديد (٢ / ٣٩٤).