يقل : ذرأنا الكل ؛ فهذه في فريق ، وهذه في فريق آخر ، وهذا التأويل يرجع إلى الخصوص ؛ ألا ترى أن الصبيان والمجانين لم يدخلوا فيه؟!
أو أن يكون قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] أي : إلا لأكلفهم العبادة وآمرهم بها ؛ فإن كان هذا فهي على الكل : على الكافر والمؤمن جميعا ، والله أعلم.
ويحتمل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] أي : ما خلقت الجن والإنس إلا لتشهد خلقتهم على وحدانية الله ، وصرف العبادة إليه ، وقد شهدت خلقة كل كافر ومؤمن على وحدانية [الله](١) وألوهيته.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها).
الفقه (٢) : هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره ، أو معرفة الشيء بمعناه الدال على مدبره ؛ فهؤلاء الكفرة لم يفقهوا ؛ لما لم ينظروا إلى الأشياء لمعناها وحقائقها ، إنما نظروا إلى الأشياء لظواهرها ، وكذلك قوله : (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) لما نظروا إلى ظواهرها ، لم ينظروا إلى معانيها وحقيقتها ؛ ليدلهم على تدبير منشئها وحكمته.
وكذلك قوله : (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) لما كانت للأنعام قلوب وأعين وآذان ، لكن لا يفقهون معناها وحقيقتها ، وإن كانوا يسمعون النداء ، وينظرون ظواهر الأشياء ؛ فعلى ذلك [هؤلاء](٣) الكفار ، وإن كانوا يسمعون ويبصرون ما ذكرنا بعد أن لم
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) الفقه لغة : الفهم مطلقا ، سواء ما ظهر أو خفي. وهذا ظاهر عبارة القاموس والمصباح المنير ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى ـ حكاية عن قوم شعيب ـ : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) [هود : ٩١] ، وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] فالآيتان تدلان على نفي الفهم مطلقا.
وذهب بعض العلماء إلى أن الفقه لغة هو فهم الشيء الدقيق ، يقال : فقهت كلامك ، أي : ما يرمي إليه من أغراض وأسرار ، ولا يقال : فقهت السماء والأرض. والمتتبع لآيات القرآن الكريم يدرك أن لفظ الفقه لا يأتى إلا للدلالة على إدراك الشيء الدقيق ، كما في قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)[الأنعام : ٩٨] وأما الآيتان السابقتان فليس المنفي فيهما مطلق الفهم ، وإنما المنفي في قول قوم شعيب ـ عليهالسلام ـ إدراك أسرار دعوته ، وإلا فهم فاهمون لظاهر قوله ، والمنفي في آية الإسراء إدراك أسرار تسبيح كل شيء لله تعالى ؛ وإلا فإن أبسط العقول تدرك أن كل شىء يسبح بحمد الله طوعا أو كرها ؛ لأنها مسخرة له.
ينظر : الصحاح (٦ / ٢٢٤٣) ، المستصفى (١ / ٤) ، المغرب (٢ / ١٤٧) ، نهاية السول للإسنوي (١ / ٧) ، شرح الكوكب المنير (١ / ٤٠).
(٣) سقط في أ.