على أحوال على أن أنفسهم كذلك كانت دخل كل منهم بجوهرهم في ذلك التدبير ؛ ليعلموا أن الذي دبرهم على ذلك دبر الكل ، [فيزول عنهم شبهة أن الكون](١) بغير الرب الذي ليس كمثله شيء ، فيزول عنهم به عذر الغفلة وعلاقة الشبهة بكفر الوالدين من حيث حق التبعية ، أو سفه التقليد بما يعلم خروج الجميع من التدبير (٢) ، ورجوع التدبير إلى غير ؛ ليكون موضع الاستدلال بما أمرهم هو ودعاهم إليه ، لا بما أمرهم به الآباء والأمهات.
ثم القول ببلى يكون نطقا ، ويكون خلقة ، ويكون جواب الفطرة بحق التأمل ، فالنطق أنه لا يسأل أحد قبل التلقين إلا وهو يقول بالرب والخالق ؛ وعلى ذلك قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥]. والخلقة بما كان من حاجته إلى مقيم وإلى مدبر على شركة كل في ذلك إقرار له بالربوبية ، وذلك معنى نفي التفاوت عن خلقه وفطرته بما يقلبه عن أحوال لو تأمّل الخلائق إدراك كل حال منها ووجه التنقل وقدر التغير في كل حال لما تهيأ لهم ؛ ليعلم أن في الفطرة شهادة بالتوحيد ، وهذا معنى ما روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «كل مولود يولد على الفطرة» (٣) أي : على حال لو تركت العقول والفكر فيها لشهدت بالتوحيد ، وذلك [معنى](٤) قوله : (بَلى) لا أن ثم قول لسان ؛ بل نطق حال ؛ كما قال الحكيم (٥) : كل صامت ناطق ؛ لأن صمته دليل تدبير آخر ، فهو ناطق بالبيان عن الواحد العزيز ، ولا قوة إلا بالله.
وقد يحتمل الإشهاد أن جعلهم شهداء على أنفسهم بالعبودة لله ، وأنه ربهم والمالك عليهم ، والقول ب «بلى» بما يلزم ذلك بالتأمل ؛ فكأنه قال ، والله أعلم.
وفي الآية دلالة إثبات خلق الله فعل الخلق ، وقد أخبر الله أنه أخذ ذلك ، والله أعلم.
فإن قيل : على ما ذا يخرج تأويل السلف؟
قيل : لعلهم وجدوا فيه خبرا ظنوا أن الآية تخرج عليه ، فأولوها على ذلك ، فإذا أريد
__________________
(١) في أ : فتزول عنهم شبه الكون.
(٢) في ب : التدبير من الجميع.
(٣) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٤٨) كتاب القدر : باب معنى «كل مولود يولد على الفطرة» (٢٣ / ٢٦٥٨) ، ومالك في الموطأ (١٦٥) ، والحميدي (١١١١ ، ١١١٣) وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٤ ، ٤٦٤) ، وأبو داود (٤٧١٤).
(٤) سقط في أ.
(٥) لم يقصد به إماما أو عالما بعينه ، وإنما قصد به من ينتسب إلى علماء الحكمة ومن انخرط في سلكهم.