__________________
ـ ثالثا : لو كانت الرؤية في قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) بمعنى العلم الضروري ـ كما يقولون ـ فإما أن يكون الجواب بقوله تعالى : (قالَ لَنْ تَرانِي) نفيا للعلم الضروري أو للرؤية ، فإن كان الأول لزم أن يكون المعنى على ذلك : لن تعلم بي علما ضروريّا ، وهو بديهي البطلان. وإن كان الثاني لم يصلح أن يكون نفي الرؤية جوابا عن سؤال العلم الضروري ، وكيف يستقيم هذا جوابا في كلام البشر ، فضلا عن القرآن الكريم الذي بلغ حد الإعجاز؟!
الاعتراض الثاني : وهو منع الاستثنائية ـ أيضا ـ أن موسى عليهالسلام لم يسأل رؤية ذاته ، بل سأله رؤية أمارة وعلامة من الأمارات الدالة على الساعة ، ومعنى الآية : أرني أمارة وعلامة من علاماتك انظر إلى علاماتك ، على حد قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)[يوسف : ٨٢] : واسأل أهل القرية ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وهذا تأويل لا يسيغه عقل سليم ؛ فهو أولا مخالف للظاهر بلا ضرورة.
ثانيا : الجواب (لَنْ تَرانِي) إن كان محمولا على نفي ما وقع السؤال عنه من رؤية الأمارة والعلامة ، فلقد أراه أعظم الآيات والعلامات وهي تدكّك الجبل ، وإن كان محمولا على نفي رؤية ذاته لم يكن الجواب مطابقا للسؤال ، وهذا لا يتفق وبلاغة القرآن.
ثالثا : الرؤية المعلقة على الاستقرار إن كانت محمولة على الآية والعلامة فباطل ؛ لأن الآية والعلامة في تدكك الجبل لا في استقراره ، وإن كانت محمولة على الرؤية فلا تكون مرتبطة بالسؤال.
رابعا : لو كان السؤال على رؤية آية تدل على قيام الساعة لأعطاه تلك الآية ، كما أعطاه غيرها ؛ إذ لا مانع لمنعه من ذلك ، كيف وقد أعطاه من الآيات ما لا غاية بعدها كالعصا واليد والطوفان وإخلال الجبل وغير ذلك ، وبالجملة فهذا التأويل لا وجه له.
الاعتراض الثالث : وهو منع للملازمة : لو لم تكن الرؤية جائزة ما طلبها.
قالوا : إن موسى ـ عليهالسلام ـ سأل ربه رؤية ذاته ، وليس في ذلك ما يدل على إمكانها ؛ لأنه لم يسأل لنفسه لعلمه بامتناعها ، بل سألها لقومه عند ما قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)[البقرة : ٥٥] فسألها ربه وهو عالم بأنه سيمنع منها ، وإنما نسبه لنفسه ليمنع هو منها ؛ فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى ، وفي هذا مبالغة بقطع دابر اقتراحهم ، كما أن أخذ الصاعقة لهم عقب سؤالها دليل ظاهر على استحالتها.
وأجيب على هذا الاعتراض بعدة أجوبة :
أولا : أن الآية صريحة في أنه طلبها لنفسه لا لقومه ، وإلا لقال : أرهم ينظروا إليك ، ولقال الله تعالى : لن يروني ، فالعدول عن ذلك خلاف الظاهر ، ولا دليل يدل عليه.
ثانيا : لو كان الغرض من السؤال إظهار امتناعها لهم ـ كما يقول المعتزلة ـ لكان الأليق في الجواب أن يكون بما يدل على الامتناع ، وليس كذلك ؛ فإن (لَنْ تَرانِي) إنما يدل على نفي الوقوع للمخاطب لا على نفي الإمكان.
ثالثا : لو كان الغرض من سؤال موسى ـ عليهالسلام ـ الرؤية : زجر القوم وردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله تعالى ، لكان موسى ـ عليهالسلام ـ عابثا في طلبه هذا ؛ لأنهم زجروا عن طلبها حين قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) بأخذ الصاعقة لهم ، فتبينوا امتناعها ؛ فيكون قول موسى ـ عليهالسلام ـ : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) سؤالا لنفسه لا لقومه ، على أن هذا السؤال ليس بمفيد لهم ؛ لأن هؤلاء إن كانوا مؤمنين كفاهم قول موسى : إنها ممتنعة ، بل كان الواجب عليه أن يزجرهم ويردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الباري ـ تعالى ـ كما هو شأنه ؛ فقد قال لهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) حينما قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) وإن كانوا كافرين معاندين منكرين لم يكفهم قول موسى ـ عليهالسلام ـ إنه تعالى أخبر بامتناعها ، بل هذا قول ـ