__________________
ـ أما دليل الملازمة ؛ فلأنه لو طلبها مع كونها ممتنعة فلا يخلو إما أن يكون موسى ـ عليهالسلام ـ عالما بامتناعها أو جاهلا به ، وكلاهما مناف لمقام نبوته ـ عليهالسلام ـ أما الأول ؛ فلأن طلب المحال مع العلم بأنه محال يكون عبثا ، ولا شك أن العبث مما يتنزه عنه كلام العقلاء ، فضلا عن النبي المصطفى بالتكليم ، أحد أولي العزم.
وأما الثاني ؛ فلأنه يؤدي إلى أن موسى ـ عليهالسلام ـ جاهل بما يجوز عليه وما يمتنع ، ومن كان هذا شأنه لا يصلح للنبوة ؛ إذ المقصود من البعث هو الدعوة إلى العقائد الحقة والأعمال الصالحة ، فكيف يكون الجاهل بأحكام الألوهية ـ خصوصا بما يجب وما يجوز وما يمتنع ـ مكلفا من (العليم الحكيم) بهداية الخلق ودعوتهم إلى ما يترتب عليه فلاحهم ونجاتهم؟!
قال الشيخ السنوسي في شرح الكبرى : كيف يجهل موسى ـ عليهالسلام ـ ما أدركت استحالته حثالة المعتزلة؟! فلو لم يعتقد جوازها ما سألها ؛ إذ اعتقاد ما لا يجوز عليه تعالى جائزا كفر ، ومن جوز ذلك على موسى أو على أحد من الأنبياء فهو كافر ؛ إذ الأنبياء معصومون من الخطأ في العقائد الإلهية ، خصوصا الأوليات منها ، وموسى ـ عليهالسلام ـ من رءوسهم كما أسلفنا ؛ إذ هو أحد أولي العزم من الرسل.
وأما دليل الاستثنائية (لكنه طلبها) ، فقوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، فلا مرية لعاقل في دلالة ذلك على أن موسى ـ عليهالسلام ـ سأل ربه الرؤية.
لكن المعتزلة لما أحالوا رؤيته ـ تعالى ـ صرفوا الآية عن ظاهرها ، وأولوها بما يتفق ومذهبهم ، وها هي اعتراضاتهم مع الرد عليها :
الاعتراض الأول : قالوا : لا نسلم أن موسى ـ عليهالسلام ـ سأل ربه الرؤية ، وإنما سأله علما ضروريّا ، وليس في الآية ما يدل على سؤالها ، وما يستأنس به من لفظ الرؤية فالمراد منه العلم الضروري لا حقيقة الرؤية ، ولا ضير في ذلك ، وأن العلم الضروري لازم للرؤية ، وإطلاق الملزوم على اللازم شائع كثير ، ولا سيما «أرى» بمعنى : أعلم ، و «رأى» بمعنى : علم ، ويكون المعنى على هذا من قوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) : ب اجعلني عالما بك علما ضروريّا. ففي هذا الاعتراض منع للاستثنائية بمنع دليلها ، وهذا منسوب إلى أبي الهذيل العلاف ، وتبعه الجبائي ، وأكثر البصريين.
وأجيب عن هذا الاعتراض :
أولا : لا نسلم أن الرؤية في الآية بمعنى العلم الضروري ، وإلا كان النظر المترتب عليها بمعناها أيضا ، والنظر وإن جاز استعماله بمعنى العلم الضروري لكنه في هذا المقام ممتنع لغة ؛ إذ لم ينقل النظر الموصول ب «إلى» إلا بمعنى الرؤية ، وما قيل من أن الدليل هو استحالتها ، فمردود بما سنبينه من الأدلة الدالة على جوازها ، إن شاء الله.
ثانيا : لو صح حمل الرؤية على العلم الضروري للزم أن يكون موسى النبي المصطفى بالتكليم غير عالم بربه علما ضروريّا ؛ إذ السؤال عن الشيء إنما يكون عند الجهل به ، وكيف يتصور ممن يدعو الخلق إلى عبادة ربهم أن يكون جاهلا به؟! وأيضا فإن خطابه لربه يقتضي أن يكون معلوما له بوجه ما ، فإن أريد بالعلم المدعى لزومه للرؤية : العلم بالهوية الخاصة ، قلنا : إنه يتناقض مع دعواهم ؛ إذ العلم بالهوية الخاصة بمعنى الانكشاف التام لا يكون إلا بالمشاهدة والعيان ، كما هو شأن جميع الجزئيات الحقيقية ، وأي عاقل يقول بلزوم مثل هذا العلم للرؤية ، على أننا لو سلمنا لزومه للرؤية لوجب أن تؤول الرؤية به ، وحينئذ لا يصح قول المعتزلة ، بل يجوز بها عن العلم الضروري ؛ لأنه لازمها. ـ