غير أظهرهم في قبيلة أو في مكان لا يعرف له النسب ، ربما يتمكن فيه الطعن والعيب ، ويقع التناكر في نسبه ؛ لجهلهم بنسبه ومولده ومنشئه على السلامة والصحة والبراءة من العيوب ، فبعث رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم ؛ لئلا يتمكن فيه ما ذكرنا من المطاعن ، ولا يعرف شيء من العيوب والآفات التي ذكرنا فيه. وقال بعضهم : قوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ، [أي](١) : من العرب أميا كما هم ، لا يكتب ولا يقرأ ولا يخطه بيمينه على ما وصفه في كتابه : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ ...) [الأعراف : ١٥٧] الآية ، وقال : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨] ، وذلك أن العرب تتمنى أن يبعث رسول منهم بقوله : (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) [فاطر : ٤٢] ، ذكر مجيء الرسول من أنفسهم ؛ ليكون أبعد من المطاعن التي طعنوا فيه والآفات التي ذكروا فيه ، وأبرأه من العيوب التي رموه بها من نحو السحر والكهانة (٢) والجنون والافتراء على الله ، و [ليكون] أقرب إلى المعرفة بأنه رسول ؛
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) قال الله سبحانه وتعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ). قال عمر : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان. وقال جابر : الطواغيت كهان ينزل عليهم الشيطان ، كان في كل حي واحد ، وقال عكرمة : الجبت بلسان الحبشة : شيطان ، والطاغوت : الكاهن ، وقيل : الجبت : كل ما عبد من دون الله عزوجل.
وعن عائشة قالت : قلت يا رسول الله ، إن الكهان قد كانوا يحدثوننا بالشيء ، فيكون حقّا ، قال : «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني ، فيقذفها في أذن وليه ، فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة».
هذا حديث متفق على صحته.
وعن معاوية بن الحكم قال : قلت يا رسول الله ، منا رجال يتطيرون؟ قال : (ذلك شيء تجدونه في أنفسكم ، فلا يصدنكم) قال : قلت : ومنا رجال يأتون الكهان؟ قال : (فلا تأتوهم) قال : قلت : ومنا رجال يخطون ، قال (خط نبي ، فمن وافق علمه علم).
هذا حديث صحيح أخرجه مسلم.
فالكاهن : هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ، ويدعي معرفة الأسرار ، ومطالعة علم الغيب ، وكان في العرب كهنة يدعون معرفة الأمور ، فمنهم من كان يزعم أن له رئيسا من الجن ، وتابعة تلقي إليه الأخبار ، ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه ، والعراف هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها ، كالمسروق من الذي سرقها ، ومعرفة مكان الضالة ، وتتهم المرأة بالزنى ، فيقول من صاحبها ، ونحو ذلك من الأمور ، ومنهم من يسمي المنجم كاهنا. وقد روي عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من اقتبس علما من النجوم ، اقتبس شعبة من السحر».
قال الإمام : والمنهي من علم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث التي لم تقع في مستقبل الزمان ، مثل إخبارهم بوقت هبوب الرياح ، ومجيء المطر ، ووقوع الثلج ، وظهور الحر والبرد ، وتغير الأسعار ونحوها ، يزعمون أنهم يستدركون معرفتها بسير الكواكب ، واجتماعها وافتراقها ، وهذا علم استأثر الله عزوجل به لا يعلمه أحد غيره ، كما قال الله سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)[لقمان : ٣٤]. فأما ما يدرك من طريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعرف به الزوال ، وجهة القبلة ، فإنه غير داخل فيما نهي عنه ؛ قال الله سبحانه وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)[الأنعام : ٩٧] وقال جل ذكره : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) ـ