وأما الإدراك : فإنما هو معنى الوقوف على حدود الشيء.
ألا ترى أن الظل في التحقيق يرى ، لكنه لا يدرك إلا بالشمس ، وإلا كان مرئيّا على ما يرى لوقت نسخ الشمس ، ولكن لا يدرك بالرؤية إلا بما يتبين له الحد ، وكذلك ضوء النهار يرى لكن حده لا يعرف بذاته ، وكذلك الظلمة ؛ لأن طرفها لا يرى فيدرك ويحاط به ، وبالحدود يدرك الشيء ، وإن كان يرى لا بها ؛ ولذلك ضرب المثل بالقمر ؛ لأنه لا يعرف حده ولا سعته ليوقف ويحاط به ويرى بيقين ، ولا قوة إلا بالله.
والأصل فيه القول بذلك على قدر ما جاء ، ونفي كل معنى من الخلق ، ولا يفسر بما لم يجئ ، والله الموفق.
ثم زعم الكعبي أن الغائب إذا (١) لم يخرج عن الوجوه التي بها يعلم ، فكذلك لا يرى إلا بالوجوه التي بها يرى من المباينة للمدى ، ولما حل فيه المرئي بالمسافة والمقابلة واتصال الهواء والصغر وعدم الصغر والبعد ، ولو جازت الرؤية بخلاف هذه لجاز العلم به.
وقال (٢) الشيخ ـ رحمهالله ـ : وهذا خطأ ؛ لأنه قدر برؤية (٣) جوهره ، وقد علم أن غير جوهره جوهر يرون من الوجه الذي لا يقدر على الإحاطة بجوهره فضلا عن إدراكه ببصره (٤) ؛ نحو الملائكة والجن وغيرهم ممّا يروننا من حيث لا نراهم ، والجثة الصغيرة نحو البق (٥) ، ونحو ذلك مما يرى لنا (٦) لو توهم مثل ذلك البصر لما احتمل الإدراك ، ويرى الملك الذي يكتب جميع أفعالنا ، ويسمع جميع أقوالنا على ما لو أردنا تقدير ذلك بما عليه جبلنا للزم إنكار ذلك كله ، وذلك عظيم ، وكذلك ما ذكر من نطق الجلود ، وغيرها مما لو امتحن بمثلها أمر الشاهد لوجد عظيما.
وبعد ، فإنه في الشاهد يفصل بين البصرين في الرؤية والتمييز على قدر تفاوتهما بما اعتراهما من (٧) الحجب ، مما لو قابل أحدهما حال الآخر على حاله وجده مستنكرا ، وإذا
__________________
(١) في ب : إذ.
(٢) في ب : قال.
(٣) في أ : رؤية.
(٤) في ب : بصره.
(٥) حشرة من رتبة نصفية الأجنحة ، أجزاء فمها ثاقبة ماصة على شكل خرطوم ، ومنه ضروب. ينظر : المعجم الوسيط (١ / ٦٦) [بق].
(٦) في أ : لما.
(٧) في أ : في.