قيل (١) : الفتنة : الشرك ، أي : قاتلوهم حتى لا يكون الشرك ، (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).
ويحتمل قوله : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : محنة القتال ؛ كأنه قال : قاتلوهم إلى الوقت الذي ترتفع فيه المحنة ، وهو يوم القيامة.
وفيه دلالة لزوم الجهاد إلى يوم الدين (٢) ، والفتنة : هي المحنة التي فيها الشدة ،
__________________
(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٢٤٥) (١٦٠٩٠) عن ابن عباس ، (١٦٠٩١) عن الحسن ، (١٦٠٩٢) عن قتادة ، (١٦٠٩٣) عن السدي.
وذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٢٤٨).
(٢) الجهاد مشروع في أصله بالكتاب والسنة والمعاني المعقولة ، وهذا قدر لا يختلف فيه اثنان من فقهاء الإسلام ، لكنهم اختلفوا بعد ذلك في صفة تلك المشروعية : أهي الندب أم الفرضية العينية ، أم الفرضية الكفائية ، والاختلاف في هذا قديم معروف لدى فقهائنا المتقدمين والمتأخرين ، والكلام فيه كما يأتي :
أجمع العلماء على أن الجهاد يكون فرض عين في ثلاثة أحوال :
الأول : أن يستنفر الإمام شخصا أو جماعة للقتال ، ففي هذه الحالة يتعين الخروج على من طلب للجهاد ، والدليل على ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).
وجه الدلالة : أن الله تعالى أنكر تثاقلهم عن الجهاد ، ولو لم يكن متعينا لما أنكره عليهم ... وما رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا».
وجه الدلالة من الحديث : أن النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : من طلب للجهاد وجب عليه أن ينفر ، وهو معنى الوجوب العيني.
الثاني : أن يدخل العدو بلاد المسلمين ، أو يتغلب على قطر من أقطارهم ؛ فيتعين القتال حينئذ ، والدليل عليه الإجماع ؛ لأنه من قبيل إغاثة الملهوف المجمع عليها.
الثالث : عند التقاء الصفين يجب على من حضر القتال ، ويحرم الانصراف إلا إذا كان متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ، والدليل عليه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فقد نهى الله المؤمنين عن التولي يوم الزحف ، وتوعدهم عليه ، والنهي والتوعد يدلان على أن الثبات واجب ، واستفيدت العينية من أداة العموم في قوله عزوجل : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ).
ثم اختلفوا في غير هذه الأحوال :
فذهب جمهور العلماء إلى أنه فرض كفاية ، إذا قام به من فيه الكفاية سقط الطلب عن الباقين.
وقيل : إنه فرض عين ، وحكاه الماوردي عن سعيد بن المسيب ، وقيل : إنه مندوب.
وقد استدل الجمهور على أنه فرض كفاية بقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)[النساء : ٩٥ ـ ٩٦]. ـ