(وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).
__________________
ـ ووجه الدلالة : أن هذه الآيات أثبتت الفضل لكل من المجاهدين والقاعدين ، ووعدت كلا منهم الحسنى ، ولو كان الجهاد فرض عين لكان القاعدون آثمين فتمتنع المفاضلة بينهم وبين المجاهدين ؛ لأنه لا يفاضل بين مأجور وآثم ، وكان يمتنع أيضا وعدهم الحسنى لكن الله قد أثبت لهم أصل الفضل ، غاية الأمر أنه جعل المجاهدين أعلى درجة من القاعدين ؛ لحسن بلائهم ومخاطرتهم بأنفسهم في لقاء العدو ، فكان فرض عين ؛ لأن المقصود ليس ابتلاء الأشخاص ، ولكن المقصود إعلاء كلمة الله تعالى أيّا كان القائم بها ، فإذا قام بها البعض سقط الطلب عن الباقين كما هو الشأن في فروض الكفاية.
واستدلوا أيضا بقول الله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة : ١٢٢].
ووجه الدلالة : أن الآية تعم الجهاد وغيره ، مما يهم جماعة المسلمين ، وهي لم توجب النفرة من جميعهم ، وإنما طلبت ـ بعد أن نفت نفرة الجميع ـ أن ينفر البعض ويبقى البعض ، وهذا بعينه هو معنى فرض الكفاية.
واستدل القائلون بأنه واجب عينا دائما بالعمومات ؛ كقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[التوبة : ٤١] ، وقوله تعالى : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التوبة : ٣٩] ، وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[البقرة : ٢١٦] ، فظاهر هذه الآيات يوجب الخروج للجهاد على جميع الناس ، ويوعد المتثاقلين عنه بعذاب أليم في الدنيا والآخرة ، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوما آخرين يكونون خيرا منهم وأطواع ، وأنه كتب عليهم القتال مع ما فيه من الشدائد ، والمشقات التي تجعله مكروها مرهوبا ـ وهذه الآيات عامة فكانت دليلا على وجوب الجهاد عينا على كل مسلم.
وقد أجيب عن هذه الآيات بأنها مصروفة عن الوجوب العيني بما ذكرنا من أدلة المذهب الأول ، ولو سلم أنها غير مصروفة فهي محمولة على من عينهم النبي صلىاللهعليهوسلم ، واستنفرهم للقتال ؛ لأن إجابته واجبة عليهم ، وذلك جمعا بين هذه الأدلة.
وأما القائلون بالندب فاستدلوا بأن قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) للندب لا للوجوب ، وذلك كما في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[البقرة : ١٨٠] والوصية مندوبة فكذا الجهاد ؛ لأن الخطابين متماثلان.
وقد رد عليهم بأنا نمنع أن حقيقة «كتب» في آيتي القتال والوصية ، للندب ، بل هي للوجوب ، إلا أن وجوب الوصية نسخ بأدلة أخرى ، ووجوب القتال لم يرد عليه ناسخ فبقيت دلالة آية (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) على الوجوب كما هي ، على أن وجوب الوصية لا يزال قائما عند بعض العلماء.
وبهذا يترجح رأي الجمهور ، وهو أن الجهاد في غير حالة الضرورة فرض كفاية. ينظر : الجهاد لشحاتة محمد شحاتة ص (٢١ ـ ٢٥).