__________________
ـ الوجه العاشر : النسخ حق بإجماع الأمة ، ووقع في القرآن ، وهو رفع أو انتهاء ، ولا شيء منهما يتصور في القديم ؛ لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه ، وللحنابلة أن يقولها : معنى نسخ القرآن : رفع حكمه لا ذاته ؛ فلا يلزم حدوث ذاته ، وقد جعل الإمام الرازي هذين الدليلين في الأربعين من الأدلة العقلية ، واختار السيد الشريف أنهما من الأدلة النقلية ، والحق ما اختاره.
وقد أجاب الأشاعرة عن جميع هذه الأدلة : بأنها إن دلت على شيء من الحدوث ، فإنما تدل على حدوث اللفظ ، ونحن في تحرير محل الخلاف أوضحنا أنه لا نزاع بين الأشاعرة وغيرهم من الطوائف في حدوث اللفظ ، وإنما النزاع بينهم في الكلام النفسي القديم ؛ فجميع الأدلة التي ذكرت أدلة في غير محل النزاع ، على أن هذه الأدلة وإن أثبتت حدوث الكلام باللفظ فهي ترد دعوى الحنابلة والحشوية. والقصد : حيث ذهبوا إلى قدم اللفظ مع قيامه بذات الله عزوجل.
والأشاعرة يوافقون المعتزلة في إقامة الأدلة المذكورة في وجه هؤلاء.
ومن الوجوه التي استدل بها المعتزلة على أن كلام الله ـ عزوجل ـ ليس بأزلي ، قولهم : لو كان أزليّا للزم الكذب في إخباره ، والكذب في إخباره محال ؛ لأن الإخبار بطريق المضي كثير في كلام الله ـ عزوجل ـ كقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً)[نوح : ١] وقال : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)[المزمل : ١٦] وصدقه يقتضي سبق وقوع النسبة ، ولا يتصور السبق على الأزلي ؛ فتعين الكذب. ودليل بطلان التالي إجماع العقلاء على أن الكذب نقص ؛ لما فيه من العجز والعبث.
والجواب عن هذا الدليل : أن أخبار الله ـ عزوجل ـ لا تتصف في الأزل ، بالماضي والحال والمستقبل ؛ لعدم الزمان. وإنما تتصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلقات ، فيقال : قام بذات الله عزوجل إخبار عن إرسال نوح مطلقا ، وذلك الإخبار موجود أزلا باق أبدا.
وقبل الإرسال كانت العبارة الدالة عليه : إنا نرسل ، وبعد الإرسال : (إِنَّا أَرْسَلْنا) ، فالتعبير في لفظ الخبر لا في الإخبار القائم بالذات ، كما تقول في علمه عزوجل : إنه قائم بذاته أزلا ، العلم بأن نوحا مرسل. وهذا العلم باق أبدا ، فقبل وجوده عرف أنه سيوجد ويرسل ، وبعد وجوده علم أنه وجد وأرسل ، والتغير في العلوم لا في العلم.
وأقوى دليل استدلت به المعتزلة قولهم : قد اتفق على أن القرآن الكريم اسم لما نقل إلينا بين دفتي المصاحف تواترا ، فهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن ، مسموع بالآذان ، ولا شك أن هذه أمور تدل على حدوثه.
والجواب عن هذا الدليل : أن القرآن الذي هو كلام الله ـ عزوجل ـ المكتوب في المصاحف بأشكال الكتابة وصور الحروف الدالة عليه ، المحفوظ في القلوب ، المسموع بحروف ملفوظة ـ غير حال في المصاحف والقلوب والألسنة والآذان ، بل هو معنى قديم قائم بذاته ـ عزوجل ـ يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه ، ويحفظ بالنظم المخيل ، ويكتب بنقوش وصور وأشكال.
فالمرسوم بسمة الحوادث : إنما هو اللفظ الدال على المعنى القديم. ويقرب ما ذكرناه ما يقال : النار جوهر محرق ، يذكر باللفظ ويكتب بالقلم ، ولا يلزم من ذلك كون حقيقة النار صوتا وحرفا ؛ وذلك لأن للشيء وجودا في الأعيان ووجودا في الأذهان ـ والمراد به الوجود العلمي ؛ حيث لا يقول المعتزلة بالوجود الذهني ـ ووجودا في العبارة ووجودا في الكتابة. والكتابة تدل على العبارة ، والعبارة تدل على ما في الأذهان ، وما في الأذهان يدل على ما في الأعيان. فحيث يوصف القرآن بما هو من لوازم القديم ، نحو : القرآن غير مخلوق ـ فالمراد حقيقته الموجودة في الخارج ، والمراد بحقيقته الموجودة في الخارج ، أن الملفوظ في هذه الصورة ذاته من غير ملاحظة ما يدل عليه ؛ إذ هو من قبيل وصف الشيء بما هو حاله حقيقة.
وذلك بخلاف ما يوصف بما هو من لوازم الحادث ؛ لأنه لا بد فيه من ملاحظة ما يدل عليه ؛ ـ