__________________
ـ الدالة على الترتيب بلا مهلة ، وكلاهما يوجب الحدوث ، وبخاصة إذا كان ذلك الشيء حادثا واقفا في الاستقبال.
وأما التقدم على الكائن الحادث بمدة يسيرة فظاهر أيضا دلالته على الحدوث.
فإن قيل : وقوع كلمة «كن» عقيب إرادة تكوين الأشياء على ما تعطيه كلمة الجزاء وإن دل على حدوثها ، لكن عموم لفظ «شيئا» من حيث وقوعه في سياق النفي معنى ، أي : ليس قولنا لشيء مما نقصد إيجاده وإحداثه ، كما في قوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «وإنما لكل امرئ ما نوى» ـ يقتضي قدمها : إذ لو كانت حادثة لوقعت بكلمة «كن» أخرى مسابقة ويتسلسل.
وإن جعلتم هذا الكلام لا على حقيقته بل مجازا عن سرعة الإيجاز فلا دلالة فيه على حدوث «كن».
قلنا : حقيقته أن ليس قولنا لشيء من الأشياء عند تكوينه إلا هذا القول ، وهو لا يقتضي ثبوت هذا القول لكل شيء.
الوجه الثالث : قوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ)[البقرة : ٣٠] و «إذ» ظرف زمان ماض ؛ فيكون قوله الواقع في هذا الظرف مختصّا بزمان معين محدث ، أما للمختص بالحال والاستقبال فظاهر ، وأما المختص بالماضي ؛ فلأن الانتقال في الحال أو الاستقبال ينافي القدم ؛ لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه.
الوجه الرابع : قوله عزوجل : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)[هود : ١] فإنه يدل على أن القرآن مركب من الآيات التي هي أجزاء متعاقبة ؛ فيكون حادثا.
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (أُحْكِمَتْ) أي : لم ينسخ بكتاب كما نسخت الشرائع به ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) : بينت بالأحكام والحلال والحرام ، وكذا قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)[يوسف : ٢] يدل على أن كلامه ـ عزوجل ـ قد يكون عربيّا تارة وعبريّا أخرى ، وذلك دليل حدوثه ، ودلالة الآية الكريمة على أن كلام الله ـ تعالى ـ قد لا يكون عربيّا ، ظاهرة ؛ فإن الذوق السليم يفهم من التخصيص ذلك.
وأما دلالته على أنه قد يكون عبريّا تارة أخرى فيضم إليه أن التوراة أيضا كلامه بالاتفاق ، على أن المراد قد يكون عبريّا ؛ فإن المقصود هاهنا مجرد الدلالة على التغير.
الوجه الخامس : قوله عزوجل : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)[التوبة : ٦] فإنه يدل على أن كلامه مسموع فيكون حادثا ؛ لأن المسموع لا يكون إلا حرفا وصوتا.
الوجه السادس : أن القرآن معجز إجماعا ، ويجب مقارنة المعجز للدعوى حتى يكون تصديقا للمدعي في دعواه ؛ فيكون حادثا مع حدوثها ، وإن لم يكن مقارنا لها حادثا معها ، بل يكون قديما سابقا عليها ـ فلا اختصاص له به وتصديقه.
الوجه السابع : أن القرآن موصوف بكونه «منزلا» و «تنزيلا» ، وذلك يوجب حدوثه ؛ لاستحالة الانتقال بالإنزال والتنزيل على صفاته القديمة القائمة بذاته تعالى ؛ إذ لا خفاء في امتناع نزول المعنى القديم القائم بذاته عزوجل بخلاف اللفظ ؛ فإنه وإن كان عرضا لا يزول عن محله ، لكن قد ينزل الجسم الحامل له ؛ فيوصف اللفظ بذلك بالنزول ولو مجازا.
الوجه الثامن : قوله صلىاللهعليهوسلم في دعائه : «يا رب القرآن العظيم ، ويا رب طه ويس» فالقرآن مربوب كلّا وبعضا ، والمربوب محدث اتفاقا.
الوجه التاسع : أنه عزوجل أخبر بلفظ الماضي نحو : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ)[يوسف : ٢](إِنَّا أَرْسَلْنا)[القمر : ١٩] ولا شك أنه لا إرسال ولا إنزال في الأزل ، فلو كان كلامه قديما لكان كذبا ؛ لأنه إخبار بالوقوع في الماضي ، ولا يتصور ما هو ماض بالقياس إلى الأزل. ـ