كانوا يوم بدر ثلاثة أثلاث : ثلث في نحر العدو ، وثلث (١) خلفهم ردء (٢) لهم ، وثلث مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحرسونه ، فلما فتح الله عليهم اختلفوا في الغنائم ؛ فقال الذين كانوا في نحر العدو : نحن أحق بالغنائم ، نحن ولينا القتال. وقال الذين كانوا ردءا لهم : لستم
__________________
ـ قد وعدتنا ، فقام سعد بن معاذ فقال : يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الآخرة ، ولا جبن عن العدو ، ولا ضن بالحياة ، أن نصنع ما صنع إخواننا ، وكلنا رأيناك قد أفردت فكرهنا أن تكون بمضيعة ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك. فتشاجروا فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الآية ، فنزعه الله تعالى من أيديهم ، فجعله إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقسمه صلىاللهعليهوسلم بين المسلمين ، على بواء أي سواء ، فكان ذلك تقوى لله تعالى وطاعته ، وطاعة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وإصلاح ذات البين.
وروى ابن أبي شيبة ، والإمام أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن مردويه ، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة ، فأتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم به فقلت : يا رسول الله قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فنفلني هذا السيف ، فأنا من قد علمت ، قال : إن هذا السيف لا لك ولا لي ، ضعه ، فوضعته ، ثم رجعت فقلت : عسى أن يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي فرجعت به فقال : اذهب فاطرحه في القبض. فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي ، حتى إذا أردت أن ألقيه لامتني نفسي فرجعت إليه ، فقلت : أعطنيه ، فشدني صوته فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (اذهب فخذ سيفك).
وروى النحاس في تاريخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفا ملقى فخرا عليه جميعا ، فقال سعد : هو لي ، وقال الأنصاري : هو لي لا أسلمه ، حتى آتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأتياه فقصا عليه القصة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليس لك يا سعد ولا للأنصاري ولكنه لي» ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) الآية ، ثم نسخت هذه الآية فقال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)[الأنفال : ٤١].
وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال : الأنفال : المغانم كانت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم خالصة ليس لأحد منها شيء ، ما أصاب من سرايا المسلمين من شيء أتوه به ، فمن حبس منه إبرة وسلكا فهو غلول ، فسألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يعطيهم منها شيئا ، فأنزل الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) قل : الأنفال لي ، جعلتها لرسلي ، ليس لكم منها شيء ، (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) ، إلى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ثم أنزل الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية ، ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين وفي سبيل الله ، وجعل أربعة أخماس الناس فيه سواء : للفرس سهمان ، ولصاحبه سهم ، وللراجل سهم. واستعمل رسول الله صلىاللهعليهوسلم علي الغنائم عبد الله بن كعب ، رضي الله عنه.
ينظر : سبل الهدى والرشاد (٤ / ٨٩ ـ ٩١) ، والبداية والنهاية (٣ / ٣٠٢).
(١) في ب : وثلثهم.
(٢) الردء : العون والناصر ، والردء في الحقيقة : التابع لغيره معينا له. والرديء : كالردء ، إلا أنه غلب استعماله في المتأخر المذموم ؛ يقال : ردؤ يردؤ رداءة فهو رديء. وقرأ نافع : (ردا) من غير همز ، فقيل : أصله الهمز ، ولكنه نقل حركة الهمزة كما نقل ابن كثير في القرآن دون غيره. وقيل : هو الزيادة من قولهم : ردأت الغم ، ويردئ على المائة ، أي يزيد ، ذكره الفراء.
ينظر : عمدة الحفاظ (٢ / ٨٩) ، والنهاية (٤ / ٢١٣) ، ومعاني القرآن للفراء (٢ / ٣٠٦).