فقد ورد الشرع بأن الماء طاهر في نفسه مطهر لغيره ، قال الله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (١) وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «خلق الماء طهورا» ثم ذكر سبحانه علة الإنزال فقال : (لِنُحْيِيَ بِهِ) أي : بالماء المنزل من السماء (بَلْدَةً مَيْتاً) وصف البلدة بميتا ، وهي صفة للمذكر لأنها بمعنى البلد. وقال الزجاج : أراد بالبلد المكان ، والمراد بالإحياء هنا : إخراج النبات من المكان الذي لا نبات فيه (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أي : نسقي ذلك الماء ، قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية عنهما وأبو حيان وابن أبي عبلة بفتح النون من «نسقيه» وقرأ الباقون بضمها ، و «من» في مما خلقنا للابتداء ، وهي متعلقة بنسقيه ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه حال ، والأنعام : قد تقدّم الكلام عليها ، والأناسيّ : جمع إنسان على ما ذهب إليه سيبويه. وقال الفراء والمبرد والزجاج : إنه جمع إنسيّ ، وللفراء قول آخر : إنه جمع إنسان ، والأصل أناسين ، مثل سرحان وسراحين ، وبستان وبساتين ، فجعلوا الباء عوضا من النون (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) ضمير صرفناه : ذهب الجمهور إلى أنه راجع إلى ما ذكر من الدلائل ، أي : كرّرنا أحوال الإظلال ، وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا (فَأَبى أَكْثَرُ) هم إلا كفران النعمة وجحدها. وقال آخرون : إنه يرجع إلى أقرب المذكورات ، وهو المطر ، أي : صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة ، فنزيد منه في بعض البلدان ، وننقص في بعض آخر منها ، وقيل : الضمير راجع إلى القرآن ، وقد جرى ذكره في أوّل السورة حيث قال : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) وقوله : (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) وقوله : (اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) والمعنى : ولقد كرّرنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس ليذكروا به ويعتبروا بما فيه ، فأبى أكثرهم (إِلَّا كُفُوراً) به ، وقيل : هو راجع إلى الريح ، وعلى رجوع الضمير إلى المطر ، فقد اختلف في معناه ، فقيل : ما ذكرناه. وقيل : صرفناه بينهم وابلا ، وطشا ، وطلا ، ورذاذا ، وقيل : تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات. قال عكرمة : إن المراد بقوله : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) هو قولهم : في الأنواء مطرنا بنوء كذا. قال النحاس : ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر هنا قولهم : مطرنا بنوء كذا. وقرأ عكرمة «صرفناه» مخففا ، وقرأ الباقون بالتثقيل. وقرأ حمزة والكسائي «ليذكروا» مخففة الذال من الذكر ، وقرأ الباقون بالتثقيل من التذكر (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي : رسولا ينذرهم كما قسمنا المطر بينهم ، ولكنا لم نفعل ذلك بل جعلنا نذيرا واحدا ، وهو أنت يا محمد ، فقابل ذلك بشكر النعمة (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم ، بل اجتهد في الدعوة واثبت فيها والضمير في قوله : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) راجع إلى القرآن ، أي : جاهدهم بالقرآن ، واتل عليهم ما فيه من القوارع ، والزواجر والأوامر ، والنواهي. وقيل : الضمير يرجع إلى الإسلام ، وقيل : بالسيف ، والأوّل أولى. وهذه السورة مكية ، والأمر بالقتال إنما كان بعد الهجرة. وقيل : الضمير راجع إلى ترك الطاعة المفهوم من قوله : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) وقيل : الضمير يرجع إلى ما دل عليه قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً)
__________________
(١). الأنفال : ١١.