لأنه سبحانه لو بعث في كل قرية نذيرا لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة القرية التي أرسل إليها ، وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى وهو محمد صلىاللهعليهوسلم فلا جرم اجتمع عليه كل المجاهدات ، فكبر جهاده ، وعظم وصار جامعا لكل مجاهدة ، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من البعد. ثم ذكر سبحانه دليلا رابعا على التوحيد فقال : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) مرج : خلّى وخلط وأرسل ، يقال مرجت الدابة وأمرجتها : إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء قال مجاهد : أرسلهما وأفاض أحدهما إلى الآخر. وقال ابن عرفة : خلطهما فهما يلتقيان ، يقال مرجته : إذا خلطته ، ومرج الدين والأمر : اختلط واضطرب ، ومنه قوله : (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (١) وقال الأزهري (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) خلى بينهما ، يقال مرجت الدابة : إذا خليتها ترعى. وقال ثعلب : المرج الإجراء ، فقوله : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي أجراهما. قال الأخفش : ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج ، فعل وأفعل بمعنى (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) الفرات البليغ العذوبة ، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل : كيف مرجهما؟ فقيل : هذا عذب ، وهذا ملح ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال. قيل : سمي الماء الحلو فراتا : لأنه يفرت العطش ، أي : يقطعه ويكسره (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي : بليغ الملوحة هذا معنى الأجاج ، وقيل : الأجاج البليغ في الحرارة ، وقيل : البليغ في المرارة ، وقرأ طلحة (مِلْحٌ) بفتح الميم وكسر اللام (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) البرزخ : الحاجز ، والحائل الذي جعله الله بينهما من قدرته ، يفصل بينهما ، وبمنعهما التمارج ، ومعنى (حِجْراً مَحْجُوراً) سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر ، فالبرزخ : الحاجز ، والحجز : المانع. وقيل : معنى (حِجْراً مَحْجُوراً) هو ما تقدّم من أنها كلمة يقولها المتعوّذ كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ، ويقول له هذا القول ، وقيل : حدّا محدودا. وقيل : المراد من البحر العذب : الأنهار العظام كالنيل والفرات وجيحون ، ومن البحر الأجاج : البحار المشهورة ، والبرزخ بينهما : الحائل من الأرض. وقيل : معنى (حِجْراً مَحْجُوراً) حراما محرما أن يعذب هذا المالح بالعذب ، أو يملح هذا العذب بالمالح ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه في سورة الرحمن (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (٢) ثم ذكر سبحانه حالة من أحوال خلق الإنسان والماء فقال : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) والمراد بالماء هنا : ماء النطفة ، أي : خلق من ماء النطفة إنسانا فجعله نسبا وصهرا ، وقيل : المراد بالماء الماء المطلق الذي يراد في قوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٣) والمراد بالنسب : هو الذي لا يحلّ نكاحه. قال الفراء والزجاج : واشتقاق الصهر من صهرت الشيء : إذا خلطته ، وسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها. وقيل : الصهر : قرابة النكاح ؛ فقرابة الزوجة : هم الأختان ، وقرابة الزوج : هم الأحماء ، والأصهار : تعمهما ، قاله الأصمعي. قال الواحدي : قال المفسرون : النسب سبعة أصناف من القرابة يجمعها قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) إلى قوله : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) ومن هنا إلى قوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) (٤) تحريم بالصهر ، وهو الخلطة التي تشبه القرابة ، حرم الله سبعة أصناف من النسب وسبعة من جهة الصهر ، قد اشتملت الآية المذكورة على
__________________
(١). ق : ٥.
(٢). الرحمن : ١٩ و ٢٠.
(٣). الأنبياء : ٣٠.
(٤). النساء : ٢٣.