هي الجلد ، فالله سبحانه ذكر هنا ثلاثة أنواع من الحواس ، وهي السمع والبصر واللمس ، وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم ، فالذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه ، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام ، وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسة لجرم المشموم ، فكانا داخلين في جنس اللمس ، وإذا عرفت من كلامه هذا وجه تخصيص الثلاثة بالذكر عرفت منه وجه تخصيص الجلود بالسؤال ؛ لأنها قد اشتملت على ثلاث حواس ، فكان تأتي المعصية من جهتها أكثر وأما على قول من فسر الجلود بالفروج فوجه تخصيصها بالسؤال ظاهر ، لأن ما يشهد به الفرج من الزنا أعظم قبحا ، وأجلب للخزي ، والعقوبة ، وقد قدّمنا وجه إفراد السمع وجمع الأبصار (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي : أنطق كلّ شيء مما ينطق من مخلوقاته فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح ، وقيل المعنى : ما نطقنا باختيارنا ، بل أنطقنا الله. والأوّل أولى (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) قيل : هذا من تمام كلام الجلود ، وقيل : مستأنف من كلام الله ، والمعنى : أن من قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم ، ورجعكم إليه (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) هذا تقريع لهم ، وتوبيخ من جهة الله سبحانه ، أو من كلام الجلود ، أي : ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة حذرا من شهادة الجوارح عليكم ، ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية. وقيل معنى الاستتار : الاتقاء ، أي : ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة ، فتتركوا المعاصي خوفا من هذه الشهادة و (أَنْ) في قوله : (أَنْ يَشْهَدَ) في محل نصب على العلة ، أي : لأجل أن تشهد ، أو : مخافة أن تشهد. وقيل : منصوبة بنزع الخافض ، وهو الباء ، أو عن ، أو من. وقيل : إن الاستتار مضمن معنى الظنّ ، أي : وما كنتم تظنون أن تشهد ، وهو بعيد (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) من المعاصي فاجترأتم على فعلها ، قيل : كان الكفار يقولون : إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ، ولكن يعلم ما نظهر دون ما نسرّ. قال قتادة : الظنّ هنا بمعنى العلم ، وقيل : أريد بالظنّ معنى مجازي يعم معناه الحقيقي ، وما هو فوقه من العلم ، (وَ) الإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى ما ذكر من ظنهم ، وهو : مبتدأ ، وخبره : (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) وقوله : (أَرْداكُمْ) خبر آخر للمبتدأ ، وقيل : إن أرداكم في محل نصب على الحال المقدّرة. وقيل : إن ظنكم بدل من ذلك ، والذي ظننتم : خبره ، وأرداكم : خبر آخر ، أو : حال ، وقيل : إن ظنكم خبر أوّل ، والموصول وصلته : خبر ثان ، وأرداكم : خبر ثالث ، والمعنى : أن ظنكم بأن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ، أهلككم وطرحكم في النار (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي : الكاملين في الخسران. ثم أخبر عن حالهم فقال : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي : فإن يصبروا على النار فالنار مثواهم ، أي : محل استقرارهم ، وإقامتهم لا خروج لهم منها. وقيل المعنى : فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار ، فالنار مثوى لهم (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) يقال أعتبني فلان : أي أرضاني بعد إسخاطه إياي ، واستعتبته : طلبت منه أن يرضى ، والمعنى : أنهم إن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون لم يرجع لأنهم لا يستحقون ذلك. قال الخليل : تقول استعتبته فأعتبني : أي استرضيته