بِالْآخِرَةِ) انتصاب وحده على الحال عند يونس ، وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه ، والاشمئزاز في اللغة : النفور. قال أبو عبيدة : اشمأزت : نفرت ، وقال المبرد : انقبضت. وبالأوّل : قال قتادة ، وبالثاني : قال مجاهد والمعنى متقارب. وقال المؤرج : أنكرت ، وقال أبو زيد : اشمأزّ الرجل ذعر من الفزع ، والمناسب للمقام تفسير اشمأزت بانقبضت ، وهو في الأصل الازورار ، وكان المشركون إذا قيل لهم لا إله إلا الله انقبضوا ، كما حكاه الله عنهم في قوله : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (١) ثم ذكر سبحانه استبشارهم بذكر أصنامهم فقال : (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي : يفرحون بذلك ويبتهجون به ، والعامل في إذا في قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ) الفعل الذي بعدها ، وهو اشمأزت ، والعامل في إذا في قوله : (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) الفعل العامل في إذا الفجائية ، والتقدير : فاجؤوا الاستبشار وقت ذكر الذين من دونه. ولما لم يقبل المتمردون من الكفار ما جاءهم به صلىاللهعليهوسلم من الدعاء إلى الخير وصمموا على كفرهم ، أمره الله سبحانه أن يردّ الأمر إليه فقال : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وقد تقدّم تفسير فاطر السموات ، وتفسير عالم الغيب والشهادة ، وهما منصوبان على النداء ومعنى : (تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) تجازي المحسن بإحسانه ، وتعاقب المسيء بإساءته ، فإنه بذلك يظهر من هو المحقّ ، ومن هو المبطل ، ويرتفع عنده خلاف المختلفين ، وتخاصم المتخاصمين. ثم لما حكى عن الكفار ما حكاه من الاشمئزاز عند ذكر الله ، والاستبشار عند ذكر الأصنام ذكر ما يدلّ على شدّة عذابهم ، وعظيم عقوبتهم فقال : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) أي : منضما إليه (لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : من سوء عذاب ذلك اليوم ، وقد مضى تفسير هذا في آل عمران (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي : ظهر لهم من عقوبات الله وسخطه ؛ وشدّة عذابه ما لم يكن في حسابهم ، وفي هذا وعيد عظيم ، وتهديد بالغ ، وقال مجاهد : عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات ، وكذا قال السدّي. وقال سفيان الثوري : ويل لأهل الرياء ، ويل لأهل الرياء ، ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار : جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا ، فقيل له ما هذا الجزع؟ قال : أخاف آية من كتاب الله (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي مساوي أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله ، و «ما» يحتمل أن تكون مصدرية ، أي : سيئات كسبهم ، وأن تكون موصولة : أي سيئات الذي كسبوه (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : أحاط بهم ونزل بهم ما كانوا يستهزءون به من الإنذار الذي كان ينذرهم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) الآية قال : قست ونفرت (قُلُوبُ) هؤلاء الأربعة (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أبو جهل بن هشام ، والوليد بن عقبة ،
__________________
(١). الإسراء : ٤٦.