مُقِيمٌ) أي : دائم مستمرّ في الدار الآخرة ، وهو عذاب النار. ثم لما كان يعظم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم إصرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان ، لا بأن يهدي من ضلّ ، فقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ) أي : لأجلهم ولبيان ما كلفوا به ، و (بِالْحَقِ) حال من الفاعل أو المفعول : أي محقين ، أو ملتبسا بالحقّ (فَمَنِ اهْتَدى) طريق الحق وسلكها (فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَ) عنها (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي : على نفسه ، فضرر ذلك عليه لا يتعدّى إلى غيره (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي : بمكلف بهدايتهم مخاطب بها ، بل ليس عليك إلا البلاغ وقد فعلت. وهذه الآيات هي منسوخة بآية السيف ، فقد أمر الله رسوله بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا بأحكام الإسلام. ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته البالغة وصنعته العجيبة فقال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي : يقبضها عند حضور أجلها ، ويخرجها من الأبدان (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي : ويتوفى الأنفس التي لم تمت ، أي : لم يحضر أجلها في منامها.
وقد اختلف في هذا ، فقيل يقبضها عن التصرّف مع بقاء الروح في الجسد. وقال الفراء : المعنى ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها قال : وقد يكون توفيها نومها ، فيكون التقدير على هذا : والتي لم تمت وفاتها نومها. قال الزجاج : لكل إنسان نفسان : أحدهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل ، والأخرى نفس الحياة إذا زالت معها زال النفس ، والنائم يتنفس. قال القشيري : في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد ، ولهذا قال : (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي : النائمة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو الوقت المضروب لموته ، وقد قال بمثل قول الزجاج : ابن الأنباري. وقال سعيد بن جبير : إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا ، وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) فيعيدها ، والأولى أن يقال : إن توفي الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس وحصول الآفة به في محل الحس ، فيمسك التي قضى عليها الموت ولا يردّها إلى الجسد الذي كانت فيه ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها. قيل ومعنى : (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) هو على حذف مضاف ، أي : عند موت أجسادها.
وقد اختلف العقلاء في النفس والروح هل هما شيء واحد أو شيئان؟ والكلام في ذلك يطول جدّا ، وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن. قرأ الجمهور «قضى» مبنيا للفاعل ، أي : قضى الله عليها الموت ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب على البناء للمفعول ، واختار أبو عبيد ، وأبو حاتم القراءة الأولى لموافقتها لقوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) والإشارة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) إلى ما تقدّم من التوفي ، والإمساك ، والإرسال للنفوس (لَآياتٍ) أي : لآيات عجيبة بديعة دالة على القدرة الباهرة ، ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في ذلك ويتدبرونه ويستدلون به على توحيد الله وكما قدرته ، فإن في هذا التوفي والإمساك والإرسال موعظة للمتعظين وتذكرة للمتذكرين.
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) الآية قال : نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فيتوفى الله النفس في منامه ، ويدع الروح في جوفه تتقلب