يعلم الناس قدر رحمة ربي لا تكلوا ، ولو يعلمون قدر سخط ربي وعقابه لاستصغروا أعمالهم» وهذا الحديث أصله في الصحيح من حديث أبي هريرة.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦))
لما ذكر سبحانه الآخرة ، ووصفها بوصف يوجب الرغبة فيها ، والشوق إليها أتبعه بذكر الدنيا ، ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها ، والنفرة منها ، فذكر تمثيلا لها في سرعة زوالها ؛ وقرب اضمحلالها ؛ مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة وصنعه البديع فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي : من السحاب مطرا (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) أي : فأدخله وأسكنه فيها ، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع ، والينبوع : عين الماء والأمكنة التي ينبع منها الماء ، والمعنى أدخل الماء النازل من السماء في الأرض وجعله فيها عيونا جارية ، أو جعله في ينابيع ، أي : في أمكنة ينبع منها الماء ، فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض. قال مقاتل : فجعله عيونا وركايا (١) في الأرض (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي : يخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا ألوانه من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر ، أو من برّ وشعير وغيرهما إذا كان المراد بالألوان الأصناف (ثُمَّ يَهِيجُ) يقال هاج النبت يهيج هيجا إذا تمّ جفافه. قال الجوهري : يقال هاج النبت هياجا : إذا يبس ، وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفرّ ، وأهاجت الريح النبت أيبسته. قال المبرد : قال الأصمعي : يقال هاجت الأرض تهيج : إذا أدبر نبتها وولى. قال : وكذلك هاج النبت (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) أي : تراه بعد خضرته ونضارته وحسن رونقه مصفرّا قد ذهبت خضرته ونضارته (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) أي : متفتتا متكسرا ، من تحطم العود : إذا تفتت من اليبس (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي : فيما تقدّم ذكره تذكير لأهل العقول الصحيحة ، فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها فيتفكرون ويعتبرون ويعلمون بأن الحياة الدنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة التصرم وقرب التقضي ، وذهاب بهجتها وزوال رونقها ونضارتها ، فإذا أنتج لهم التفكر والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها والميل إليها وإيثارها على دار النعيم الدائم والحياة المستمرة واللذة الخالصة ، ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر ،
__________________
(١). الرّكية : البئر ، ج. ركايا.