القرآن ، وقيل : يستمعون الرخص والعزائم ، فيتبعون العزائم ، ويتركون الرخص ، وقيل : يأخذون بالعفو ، ويتركون العقوبة. ثم أثنى سبحانه على هؤلاء المذكورين فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي هم الذين أوصلهم الله إلى الحق وهم أصحاب العقول الصحيحة ، لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم ، ولم ينتفع من عداهم بعقولهم. ثم ذكر سبحانه من سبقت له الشقاوة وحرم السعادة فقال : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) من هذه يحتمل أن تكون موصولة في محل رفع بالابتداء ، وخبرها : محذوف ، أي : كمن يخاف ، أو فأنت تخلصه أو تتأسف عليه ، ويحتمل أن تكون شرطية ، وجوابه (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) فالفاء : فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء ، وأعيدت الهمزة الإنكارية لتأكيد معنى الإنكار. وقال سيبويه إنه كرّر الاستفهام لطول الكلام. وقال الفراء : المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب ، والمراد بكلمة العذاب هنا هي قوله تعالى لإبليس : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (١) وقوله : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (٢) ومعنى الآية التسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لأنه كان حريصا على إيمان قومه ، فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء ، وحقت عليه كلمة الله لا يقدر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن ينقذه من النار بأن يجعله مؤمنا. قال عطاء : يريد أبا لهب وولده ، ومن تخلف من عشيرة النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن الإيمان ، وفي الآية تنزيل لمن يستحقّ العذاب بمن قد صار فيه ، وتنزيل دعائه إلى الإيمان منزلة الإخراج له من عذاب النار. ولما ذكر سبحانه فيما سبق أن لأهل الشقاوة ظللا من فوقهم النار ، ومن تحتهم ظلل استدرك عنهم من كان من أهل السعادة فقال : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض ، ومعنى (مَبْنِيَّةٌ) أنها مبنية بناء المنازل في إحكام أساسها وقوّة بنائها وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي : من تحت تلك الغرف ، وفي ذلك كمال لبهجتها وزيادة لرونقها ، وانتصاب (وَعْدَ اللهِ) على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة ، لأن قوله : (لَهُمْ غُرَفٌ) في معنى وعدهم الله بذلك ، وجملة : (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) مقرّرة للوعد ، أي : لا يخلف الله ما وعد به الفريقين من الخير والشرّ.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية. قال : هم الكفار الذين خلقهم الله للنار زالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) قال : أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدّوا لهم لو عملوا بطاعة الله فغبنوهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : كان سعيد بن زيد ، وأبو ذرّ ، وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول ، وأحسن القول والكلام : لا إله إلا الله ، قالوا بها ، فأنزل الله على نبيه (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الآية. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد : قال : لما نزل : «(فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم مناديا فنادى : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، فاستقبل عمر الرسول فردّه فقال : يا رسول الله خشيت أن يتكل الناس فلا يعملون ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لو
__________________
(١). ص : ٨٥.
(٢). الأعراف : ١٨.