والتوبيخ كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١) وقيل إن الأمر على حقيقته ، وهو منسوخ بآية السيف ، والأوّل أولى (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : إن الكاملين في الخسران هم هؤلاء ، لأن من دخل النار فقد خسر نفسه وأهله. قال الزجاج : وهذا يعني به الكفار ، فإنهم خسروا أنفسهم بالتخليد في النار ، وخسروا أهليهم ، لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة ، وجملة : (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) مستأنفة لتأكيد ما قبلها ، وتصديرها بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران الذي حلّ بهم قد بلغ من العظم إلى غاية ليس فوقها غاية ، وكذلك تعريف الخسران ووصفه بكونه مبينا ، فإنه يدلّ على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران ، وأنه لا خسران يساويه ، ولا عقوبة تدانيه. ثم بين سبحانه هذا الخسران الذي حلّ بهم والبلاء النازل عليهم بقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) الظلل عبارة عن أطباق النار ، أي : لهم من فوقهم أطباق من النار تلتهب عليهم (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي : أطباق من النار ، وسمى ما تحتهم ظللا لأنها تظلّ من تحتها من أهل النار ، لأن طبقات النار صار في كلّ طبقة منها طائفة من طوائف الكفار ، ومثل هذه الآية قوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) (٢) وقوله : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (٣) والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم ذكره من وصف عذابهم في النار ، وهو : مبتدأ ، وخبره : قوله : (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) أي : يحذرهم بما توعد به الكفار من العذاب ليخافوه فيتقوه ، وهو معنى (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) أي : اتقوا هذه المعاصي الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار ، ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم ، وقيل : هو للكفار وأهل المعاصي ، وقيل : هو عامّ للمسلمين والكفار (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) الموصول : مبتدأ ، وخبره : قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى) والطاغوت بناء مبالغة في المصدر كالرحموت والعظموت ، وهو الأوثان والشيطان. وقال مجاهد وابن زيد : هو الشيطان. وقال الضحاك والسدّي : هو الأوثان. وقيل : إنه الكاهن ، وقيل : هو اسم أعجمي مثل طالوت ، وجالوت ، وقيل : إنه اسم عربيّ مشتق من الطغيان. قال الأخفش : الطاغوت جمع ، ويجوز أن يكون واحده مؤنثا ، ومعنى اجتنبوا الطاغوت : أعرضوا عن عبادته وخصوا عبادتهم بالله عزوجل ، وقوله : (أَنْ يَعْبُدُوها) في محل نصب على البدل من الطاغوت بدل اشتمال ، كأنه قال : اجتنبوا عبادة الطاغوت ، وقد تقدّم الكلام على تفسير الطاغوت مستوفى في سورة البقرة ، وقوله : (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) معطوف على اجتنبوا ، والمعنى : رجعوا إليه وأقبلوا على عبادته معرضين عما سواه (لَهُمُ الْبُشْرى) بالثواب الجزيل وهو الجنة ، وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل ، أو عند حضور الموت أو عند البعث (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) المراد بالعباد هنا العموم ، فيدخل الموصوفون بالاجتناب والإنابة إليه دخولا أوّليا ، والمعنى : يستمعون القول الحقّ من كتاب الله وسنة رسوله فيتبعون أحسنه أي محكمه ، ويعملون به. قال السدّي : يتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعملون بما فيه ، وقيل : هو الرجل يسمع الحسن ، والقبيح فيتحدّث بالحسن ، وينكف عن القبيح ؛ فلا يتحدّث به ، وقيل : يستمعون القرآن ، وغيره فيتبعون
__________________
(١). فصلت : ٤٠.
(٢). الأعراف : ٤١.
(٣). العنكبوت : ٥.