سيئاته ، والكافر يجازى بكل عمل عمله وقال طاوس : هو المناقشة في الحساب ، وأما المؤمن فلا يناقش. وقال الحسن : إن المعنى إنه يجازى الكافر مثلا بمثل ورجح هذا الجواب النحاس (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) هذا معطوف على قوله : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) أي : وكان من قصتهم : أنا جعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها بالماء والشجر ، وهي قرى الشام (قُرىً ظاهِرَةً) أي : متواصلة ، وكان متجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام ، وكانوا يبيتون بقرية ، ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا ، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد يحملونه من أرضهم إلى الشام ، فهذا من جملة الحكاية لما أنعم الله به عليهم. قال الحسن : إن هذه القرى هي بين اليمن والشام ، قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية ، وقيل هي بين المدينة والشام. وقال المبرّد : القرى الظاهرة هي المعروفة ، وإنما قيل لها ظاهرة لظهورها ، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى فكانت قرى ظاهرة : أي معروفة ، يقال هذا أمر ظاهر : أي معروف (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي : جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارا معينا واحدا ، وذلك نصف يوم كما قال المفسرون. قال الفرّاء : أي جعلنا بين كلّ قريتين نصف يوم حتى يكون في قرية ، والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام ، وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء والخوف في الطريق ، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل نفسه المشقة ، بل ينزل أينما أراد. والحاصل أن الله سبحانه عدّد عليهم النعم ، ثم ذكر ما نزل بهم من النقم ، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم وبين ما يريدون السفر إليه ، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري كما سيأتي وقوله : (سِيرُوا فِيها) هو على تقدير القول : أي وقلنا لهم سيروا في تلك القرى المتصلة ، فهو أمر تمكين ، أي : ومكناهم من السير فيها متى شاؤوا (لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) مما يخافونه ، وانتصاب ليالي وأياما على الظرفية ، وانتصاب آمنين على الحال. قال قتادة : كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظمأى ، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرّك بعضهم بعضا ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحرّكه. ثم ذكر سبحانه أنهم لم يشكروا النعمة ، بل طلبوا التعب والكد (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) وكان هذا القول منهم بطرا وطغيانا لما سئموا النعمة ولم يصبروا على العافية ، فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار ، وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن ، المفاوز والقفار والبراري المتباعدة الأقطار ، فأجابهم الله إلى ذلك وخرّب تلك القرى المتواصلة ، وذهب بما فيها من الخير والماء والشجر ، فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) (١) الآية مكان المنّ والسلوى ، وكقول النضر بن الحارث (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (٢) الآية. قرأ الجمهور (رَبَّنا) بالنصب على أنه منادى مضاف ، وقرءوا أيضا (باعِدْ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر (بعّد) بتشديد العين ، وقرأ ابن السميقع : بضم العين فعلا ماضيا ، فيكون معنى هذه القراءة الشكوى من بعد الأسفار ، وقرأ أبو صالح ومحمّد بن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب «ربنا» بالرفع «باعد» بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء والخبر. والمعنى : لقد باعد ربّنا بين أسفارنا ، ورويت هذه القراءة عن
__________________
(١). البقرة : ٦١.
(٢). الأنفال : ٣٢.