ابن عباس ، واختار أبو حاتم ، قال لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة ، بطرا وأشرا وكفرا للنعمة. وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر «ربنا» بالرفع «بعد» بفتح العين مشدّدة ، فيكون معنى هذه القراءة الشكوى بأن ربهم بعّد بين أسفارهم ، مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء ، فيكون هذا من جملة بطرهم ، وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميقع السابقة مع رفع (بين) على أنه الفاعل ، كما قيل في قوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) وروى الفرّاء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف ، والتقدير : بعد سيرنا بين أسفارنا. قال النحاس : وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى ، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها ، ولكن أخبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم ، فلما فعل ذلك بهم شكوا وتضرّروا ، ولهذا قال سبحانه : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث كفروا بالله وبطروا نعمته وتعرّضوا لنقمته (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدّث الناس بأخبارهم. والمعنى : جعلناهم ذوي أحاديث يتحدّث بها من بعدهم تعجبا من فعلهم واعتبارا لحالهم وعاقبتهم (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي : فرّقناهم في كلّ وجه من البلاد كلّ التفريق ، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث ، وذلك أن الله سبحانه لما أغرق مكانهم وأذهب جنتهم ، تفرّقوا في البلاد فصارت العرب تضرب بهم الأمثال ، فتقول : تفرّقوا أيدي سبأ. قال الشعبي : فلحقت الأنصار بيثرب ، وغسان بالشام ، والأزد بعمان ، وخزاعة بتهامة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي : فيما ذكر من قصتهم وما فعل الله بهم لآيات بينات ، ودلالات واضحات (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي : لكلّ من هو كثير الصبر والشكر ، وخصّ الصبار الشكور لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) قرأ الجمهور صدق بالتخفيف ورفع إبليس ونصب ظنه. قال الزجاج : وهو على المصدر : أي صدق عليهم ظنا ظنه ، أو صدق في ظنه ، أو على الظرف. والمعنى : أنه ظنّ بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه فوجدهم كذلك ، ويجوز أن يكون منتصبا على المفعولية ، أو بإسقاط الخافض. وقرأ حمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم (صَدَّقَ) بالتشديد ، وظنه بالنصب على أنه مفعول به. قال أبو علي الفارسي : أي صدّق الظنّ الذي ظنه. قال مجاهد : ظنّ ظنا فصدّق ظنه ، فكان كما ظنّ ، وقرأ أبو جعفر وأبو الجهجاه والزهري وزيد بن عليّ «صدق» بالتخفيف و «إبليس» بالنصب و «ظنه» بالرفع ؛ قال أبو حاتم : لا وجه لهذه القراءة عندي ، وقد أجاز هذه القراءة الفرّاء وذكرها الزجاج ، وجعل الظنّ : فاعل صدق ، وإبليس : مفعوله. والمعنى : أن إبليس سوّل له ظنه شيئا فيهم فصدق ظنه ، فكأنه قال : ولقد صدق عليهم ظنّ إبليس. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ برفعهما مع تخفيف صدق على أن يكون ظنه بدل اشتمال من إبليس ، قيل : وهذه الآية خاصة بأهل سبأ. والمعنى : أنهم غيروا وبدّلوا بعد أن كانوا قد آمنوا بما جاءت به رسلهم ، وقيل هي عامة ، أي : صدّق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله. قال مجاهد والحسن. قال الكلبي : إنه ظنّ أنه إن أغواهم أجابوه ، وإن أضلهم أطاعوه فصدّق ظنه (فَاتَّبَعُوهُ) قال الحسن : ما ضربهم بسوط ولا بعصا ، وإنما ظنّ فكان كما ظنّ بوسوسته ، وانتصاب (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) على الاستثناء ، وفيه