دعوه فخلصهم مما كانوا فيه. وهذا الكلام مسوق للتعجيب من أحوالهم ، وما صاروا عليه من الاعتراف بوحدانية الله سبحانه عند نزول الشدائد ، والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم ، واللام في (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) هي لام كي ، وقيل : لام لقصد الوعيد والتهديد ، وقيل : هي لام العاقبة. ثم خاطب سبحانه هؤلاء الذين وقع منهم ما وقع فقال : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما يتعقب هذا التمتع الزائل من العذاب الأليم. قرأ الجمهور «فتمتعوا» على الخطاب. وقرأ أبو العالية بالتحتية على البناء للمفعول ، وفي مصحف ابن مسعود «فليتمتعوا» (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أم : هي المنقطعة ، والاستفهام : للإنكار ، والسلطان : الحجة الظاهرة (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) أي : يدل كما في قوله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) (١) قال الفراء : إن العرب تؤنث السلطان ، يقولون : قضت به عليك السلطان. فأما البصريون : فالتذكير عندهم أفصح ، وبه جاء القرآن ، والتأنيث عندهم جائز ؛ لأنه بمعنى الحجة ، وقيل : المراد بالسلطان : الملك (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي : ينطق بإشراكهم بالله سبحانه ، ويجوز أن تكون الباء سببية ، أي : بالأمر الذي بسببه يشركون (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أي : خصبا ونعمة ، وسعة وعافية (فَرِحُوا بِها) فرح بطر ، وأشر ، لا فرح شكر بها وابتهاج بوصولها إليهم (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) ثم قال سبحانه : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدة على أي صفة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : بسبب ذنوبهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) القنوط : الإياس من الرحمة ، كذا قال الجمهور. وقال الحسن : القنوط : ترك فرائض الله سبحانه. قرأ الجمهور «يقنطون» بضم النون. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسرها (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) من عباده ، ويوسع له (وَيَقْدِرُ) أي : يضيق على من يشاء لمصلحة في التوسيع لمن وسع له ، وفي التضييق على من ضيق عليه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فيستدلون على الحق لدلالتها على كمال القدرة وبديع الصنع وغريب الخلق.
وقد أخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان يلبي أهل الشرك : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، فأنزل الله (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ) الآية. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال هي في الآلهة ، وفيه يقول تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) قال : دين الله (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) قال : القضاء القيم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن الأسود ابن سريع ، أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث سريّة إلى خيبر فقاتلوا المشركين ، فانتهى القتل إلى الذريّة ، فلمّا جاءوا قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «ما حملكم على قتل الذريّة؟ قالوا : يا رسول الله! إنّما كانوا أولاد المشركين ، قال : وهل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفسي بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتّى يعرب عنها لسانها». وأخرج أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يعبّر عنه لسانه ، فإذا عبّر عنه لسانه إمّا شاكرا وإما كفورا» رواه أحمد عن الربيع بن أنس
__________________
(١). الجاثية : ٢٩.