عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) ثم بين سبحانه ما يقوله لكل أمة من هذه الأمم بقوله : (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : حجتكم ودليلكم بأن معي شركاء ، فعند ذلك اعترفوا ، وخرسوا عن إقامة البرهان ، ولذا قال : (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) في الإلهية وأنه وحده لا شريك له (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : غاب عنهم وبطل ، وذهب ما كانوا يختلقونه من الكذب في الدنيا ؛ بأنّ لله شركاء يستحقون العبادة. ثم عقب سبحانه حديث أهل الضلال بقصة قارون لما اشتملت عليه من بديع القدرة ، وعجيب الصنع فقال : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) قارون على وزن فاعول اسم أعجمي ممتنع للعجمة والعلمية ، وليس بعربيّ مشتق من قرنت. قال الزجاج : لو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف. قال النخعي وقتادة وغيرهما : كان ابن عمّ موسى ، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى هو ابن عمران بن قاهث. وقال ابن إسحاق : كان عم موسى لأب وأم ، فجعله أخا لعمران ، وهما ابنا قاهث. وقيل : هو ابن خالة موسى ، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه ، فنافق كما نافق السامري ، وخرج عن طاعة موسى ، وهو معنى قوله : (فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي : جاوز الحدّ في التجبر ، والتكبر عليهم ، وخرج عن طاعة موسى ، وكفر بالله. قال الضحاك : بغيه على بني إسرائيل : استخفافه بهم لكثرة ماله وولده. وقال قتادة : بغيه بنسبته ما آتاه الله من المال إلى نفسه ، لعلمه وحيلته. وقيل : كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل ، فتعدّى عليهم وظلمهم ، وقيل : كان بغيه بغير ذلك مما لا يناسب معنى الآية (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) جمع كنز : وهو المال المدّخر. قال عطاء : أصاب كنزا من كنوز يوسف ، وقيل : كان يعمل الكيمياء ، و «ما» في قوله : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) موصولة ، صلتها إنّ وما في حيزها ، ولهذا كسرت. ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع المكسورة ، وما في حيزها صلة الذي ، واستقبح ذلك منهم لوروده في الكتاب العزيز في هذا الموضع ، والمفاتح جمع مفتح بالكسر ، وهو ما يفتح به ، وقيل : المراد بالمفاتح : الخزائن ، فيكون واحدها مفتح بفتح الميم. قال الواحدي : إن المفاتح : الخزائن في قول أكثر المفسرين كقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) (٢) قال : وهو اختيار الزجاج فإنه قال : الأشبه في التفسير أن مفاتحه : خزائن ماله. وقال آخرون : هي جمع مفتاح ، وهو ما يفتح به الباب ، وهذا قول قتادة ومجاهد (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) هذه الجملة خبر إن وهي واسمها وخبرها صلة ما الموصولة ، يقال ناء بحمله : إذا نهض به مثقلا ، ويقال ناء بي الحمل : إذا أثقلني ، والمعنى : يثقلهم حمل المفاتح. قال أبو عبيدة : هذا من المقلوب ، والمعنى : لتنوء بها العصبة : أي : تنهض بها. قال أبو زيد : نؤت بالحمل : إذا نهضت به. قال الشاعر :
إنّا وجدنا خلفا بئس الخلف |
|
عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف |
وقال الفراء ، معنى تنوء بالعصبة : تميلهم بثقلها كما يقال : يذهب بالبؤس ، ويذهب البؤس ، وذهبت به ، وأذهبته ، وجئت به ، وأجأته ونؤت به ، وأنأته ، واختار هذا النحاس ، وبه قال كثير من السلف ،
__________________
(١). النساء : ٤١.
(٢). الأنعام : ٥٩.