من السرد ، وهو المتابعة ، فالميم زائدة ، ومنه قول طرفة :
لعمرك ما أمري عليّ بغمّة |
|
نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد |
وقيل : إن ميمه أصلية ، ووزنه فعلل لا فعمل ، وهو الظاهر ، بين لهم سبحانه أنه مهد لهم أسباب المعيشة ؛ ليقوموا بشكر النعمة. فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلا دائما إلى يوم القيامة ؛ لم يتمكنوا من الحركة فيه ، وطلب ما لا بدّ لهم منه مما يقوم به العيش ، من المطاعم ، والمشارب ، والملابس ، ثم امتنّ عليهم فقال : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) أي : هل لكم إله من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم بضياء ، أي : بنور تطلبون فيه المعيشة ، وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه ، وتصلح به ثماركم ، وتنمو عنده زرائعكم ، وتعيش فيه دوابكم (أَفَلا تَسْمَعُونَ) هذا الكلام سماع فهم ، وقبول ، وتدبر ، وتفكر. ثم لما فرغ من الامتنان عليهم بوجود النهار ، امتنّ عليهم بوجود الليل فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : جعل جميع الدهر الذي تعيشون فيه نهارا إلى يوم القيامة (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) أي : تستقرّون فيه من النصب ، والتعب ، وتستريحون مما تزاولون من طلب المعاش ، والكسب (أَفَلا تُبْصِرُونَ) هذه المنفعة العظيمة ؛ إبصار متعظ متيقظ ، حتى تنزجروا عما أنتم فيه من عبادة غير الله ، وإذا أقرّوا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عزوجل ، فقد لزمتهم الحجة ، وبطل ما يتمسكون به من الشبه الساقطة ، وإنما قرن سبحانه بالضياء قوله : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل قوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) لأن البصر يدرك ما لا يدركه السمع من ذلك (١) (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي : في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي : في النهار ، بالسعي في المكاسب (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : ولكي تشكروا نعمة الله عليكم ، وهذه الآية من باب اللف والنشر ، كما في قول امرئ القيس :
كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا |
|
لدى وكرها العنّاب والحشف البالي |
واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكنا ، وطلب الرزق في الليل ممكنا ، وذلك عند طلوع القمر على الأرض ، أو عند الاستضاءة بشيء بما له نور كالسراج ، لكن ذلك قليل نادر مخالف لما يألفه العباد ، فلا اعتبار به (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) كرّر سبحانه هذا لاختلاف الحالتين لأنهم ينادون مرة ، فيدعون الأصنام ، وينادون أخرى ، فيسكتون ، وفي هذا التكرير أيضا تقريع بعد تقريع ، وتوبيخ بعد توبيخ ، وقوله : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) عطف على ينادي ، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقق ، والمعنى : وأخرجنا من أكل أمة من الأمم شهيدا يشهد عليهم. قال مجاهد : هم الأنبياء ، وقيل : عدول كلّ أمة ، والأوّل : أولى. ومثله قوله سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ
__________________
(١). الصواب : أنه قرن السمع بالليل لأن الليل يتطلب حاسة السمع أكثر من غيرها. وقرن البصر مع النهار لأنه يعتمد على الضياء.