أي : فلا تجعلني يا ربّ ظهيرا لهم. قال الكسائي ، وفي قراءة عبد الله «فلا تجعلني يا ربّ ظهيرا للمجرمين» وقال الفراء : المعنى اللهمّ! فلن أكون ظهيرا للمجرمين. وقال النحاس : إن جعله من باب الخبر أوفى ، وأشبه بنسق الكلام (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي : دخل في وقت الصباح في المدينة التي قتل فيها القبطي ، وخائفا : خبر أصبح ، ويجوز أن يكون حالا ، والخبر : في المدينة ، ويترقب : يجوز أن يكون خبرا ثانيا ، وأن يكون حالا ثانية ، وأن يكون بدلا من خائفا ، ومفعول يترقب : محذوف ، والمعنى : يترقب المكروه أو يترقب الفرح (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) إذا هي الفجائية ، والموصول : مبتدأ وخبره يستصرخه ، أي : فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس يقاتل قبطيا آخر أراد أن يسخره ، ويظلمه كما أراد القبطي الذي قد قتله موسى بالأمس ، والاستصراخ الاستغاثة ، وهو من الصراخ ، وذلك أن المستغيث يصوّت في طلب الغوث ، ومنه قول الشاعر :
كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع |
|
كان الجواب له قرع الظّنابيب (١) |
(قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي : بين الغواية ، وذلك أنك تقاتل من لا تقدر على مقاتلته ولا تطيقه ، وقيل : إنما قال له هذه المقالة لأنه تسبب بالأمس لقتل رجل يريد اليوم أن يتسبب لقتل آخر (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) أي : يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ لموسى ، وللإسرائيلي حيث لم يكن على دينهما ، وقد تقدّم معنى يبطش واختلاف القراء فيه (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) القائل : هو الإسرائيلي لما سمع موسى يقول له (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ورآه يريد أن يبطش بالقبطي ظن أنه يريد أن يبطش به ، فقال لموسى (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) فلما سمع القبطي ذلك أفشاه ، ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي ، هكذا قال جمهور المفسرين. وقيل : إن القائل (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) هو القبطي ، وكان قد بلغه الخبر من جهة الإسرائيلي ، وهذا هو الظاهر ، وقد سبق ذكر القبطي قبل هذا بلا فصل لأنه هو المراد بقوله عدوّ لهما ، ولا موجب لمخالفة الظاهر ، حتى يلزم عنه أنه المؤمن بموسى المستغيث به المرّة الأولى ، والمرّة الأخرى هو الذي أفشى عليه ، وأيضا إن قوله : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) لا يليق صدور مثله إلا من كافر ، وإن : في قوله : (إِنْ تُرِيدُ) هي النافية ، أي : ما تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض. قال الزجاج : الجبار في اللغة : الذي لا يتواضع لأمر الله ، والقاتل بغير حق : جبار. وقيل : الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب ، والقتل ، ولا ينظر في العواقب ، ولا يدفع بالتي هي أحسن (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) أي : الذين يصلحون بين الناس (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) قيل : المراد بهذا الرجل حزقيل ، وهو مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم موسى ، وقيل : اسمه شمعون ، وقيل : طالوت ، وقيل : شمعان. والمراد بأقصى المدينة : آخرها وأبعدها ، ويسعى يجوز أن يكون
__________________
(١). الظّنابيب : جمع ظنبوب ، وهو حرف العظم اليابس من الساق ، والمراد : سرعة الإجابة.