توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه ، وأقيم عليه الحدّ بسببه. وقالت فرقة منهم مالك وغيره : إن توبته تكون بأن يحسن حاله ، ويصلح عمله ، ويندم على ما فرط منه ، ويستغفر الله من ذلك ، ويعزم على ترك العود إلى مثله ، وإن لم يكذب نفسه ولا رجع عن قوله. ويؤيد هذه الآيات والأحاديث الواردة في التوبة فإنها مطلقة غير مقيدة بمثل هذا القيد.
وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب ، ولو كان كفرا فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى ، هكذا حكى الإجماع القرطبي. قال أبو عبيد : الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة ، وليس من رمى غيره بالزنا بأعظم جرما من مرتكب الزنا ، والزاني إذا تاب قبلت شهادته ، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى ، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن منها قوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ) إلى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) (١) ولا شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع. قال الزجاج : وليس القاذف بأشدّ جرما من الكافر ، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته ، قال : وقوله : (أَبَداً) أي : مادام قاذفا ، كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبدا فإن معناه : مادام كافرا ، انتهى. وجملة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل لما تضمنه الاستثناء من عدم المؤاخذة للقاذف بعد التوبة وصيرورته مغفورا له ، مرحوما من الرحمن الرحيم ، غير فاسق ولا مردود الشهادة ، ولا مرفوع العدالة. ثم ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف ، وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح فقال : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) أي : لم يكن لهم شهداء يشهدون بما رموهنّ به من الزنا إلا أنفسهم بالرفع على البدل من شهداء. قيل : ويجوز النصب على خبر يكن. قال الزجاج : أو على الاستثناء على الوجه المرجوح (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) قرأ الكوفيون برفع أربع على أنها خبر لقوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) أي : فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدّ القذف أربع شهادات. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو أربع بالنصب على المصدر ، ويكون (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب شهادة أحدهم ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي : فشهادة أحدهم واجبة. وقيل : إن أربع منصوب بتقدير : فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات وقوله : (بِاللهِ) متعلق بشهادة أو بشهادات ، وجملة (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) هي المشهود به ، وأصله على أنه ، فحذف الجار وكسرت إن ، وعلق العامل عنها (وَالْخامِسَةُ) قرأ السبعة وغيرهم الخامسة بالرفع على الابتداء ، وخبرها (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص و «الخامسة» بالنصب على معنى وتشهد الشهادة الخامسة ، ومعنى (إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي فيما رماها به من الزنا. قرأ الجمهور بتشديد «أن» من قوله : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) وقرأ نافع بتخفيفها ، فعلى قراءة نافع يكون اسم أن ضمير الشأن ، ولعنة الله : مبتدأ ، وعليه : خبره ، والجملة خبر أن ، وعلى قراءة الجمهور تكون لعنة الله اسم أن ، قال سيبويه : لا تخفف أنّ في الكلام وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة. وقال الأخفش : لا أعلم الثقيلة إلا أجود في
__________________
(١). المائدة : ٣٣ ـ ٣٤.