(وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) معطوفة على اجلدوا ، أي : فاجمعوا لهم بين الأمرين : الجلد ، وترك قبول الشهادة ، لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به عليهم في آخر هذه الآية. واللام في لهم متعلقة بمحذوف هو حال من شهادة ولو تأخرت عليها لكانت صفة لها ، ومعنى «أبدا» : ماداموا في الحياة. ثم بين سبحانه حكمهم بعد صدور القذف منهم ، وإصرارهم عليه ، وعدم رجوعهم إلى التوبة فقال : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) وهذه جملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها ، والفسق : هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة الحدّ بالمعصية ، وجوّز أبو البقاء أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال. ثم بين سبحانه أن هذا التأييد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة فقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) وهذه الجملة في محل نصب على الاستثناء ، لأنه من موجب ، وقيل : يجوز أن يكون في موضع خفض على البدل ، ومعنى التوبة قد تقدّم تحقيقه ، ومعنى (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) من بعد اقترافهم لذنب القذف ، ومعنى (وَأَصْلَحُوا) إصلاح أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف ومداركة ذلك بالتوبة والانقياد للحدّ.
وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ وهي جملة عدم قبول الشهادة ، وجملة الحكم عليهم بالفسق ، أم إلى الجملة الأخيرة؟ وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد ، يجلد التائب كالمصرّ ، وبعد إجماعهم أيضا على أن هذا الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق ، فمحلّ الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا؟ فقال الجمهور : إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين ، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه الفسق ، لأن سبب ردّه هو ما كان متصفا به من الفسق بسبب القذف ، فإذا زال بالتوبة بالإجماع كانت الشهادة مقبولة. وقال القاضي شريح وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد وسفيان الثوري وأبو حنيفة : إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق ، لا إلى جملة عدم قبول الشهادة ، فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق ولا تقبل شهادته أبدا. وذهب الشعبي والضحاك إلى التفصيل فقالا : لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان ، فحينئذ تقبل شهادته. وقول الجمهور هو الحق ، لأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها مع كون الكلام واحدا في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب ، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيدا لها لا تنفي كونه قيدا لما قبلها ، غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به ، ولهذا كان مجمعا عليه ، وكونه أظهر لا ينافي قوله فيما قبلها ظاهرا. وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل بما هو معروف عند من يعرف ذلك الفنّ ، والحق : هو هذا ، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود عائدا إلى جميع الجمل التي قبله ، وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة ولا يصلح للاستدلال ، فإنه قد يكون ذلك لدليل كما وقع هنا من الإجماع على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد. ومما يؤيد ما قررناه ويقوّيه أن المانع من قبول الشهادة ، وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال ، فلم يبق ما يوجب الردّ للشهادة.
واختلف العلماء في صورة توبة القاذف ، فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة : إن