يدعونهم يعني الكفار من دون الله عزوجل لا يستجيبون لهم بشيء مما يطلبونه منهم كائنا ما كان إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فإنه لا يجيبه ؛ لأنه جماد لا يشعر بحاجته إليه ، ولا يدري أنه طلب منه أن يبلغ فاه ، ولهذا قال : (وَما هُوَ) أي الماء (بِبالِغِهِ) أي ببالغ فيه. قال الزجّاج : إلا كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء يدعو الماء إلى فيه ، والماء لا يستجيب ، أعلم الله سبحانه أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان إلى الماء يدعوه إلى بلوغ فمه ، وما الماء ببالغه. وقيل : المعنى : أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفّه شيء منه ، وقد ضربت العرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقبض على الماء كما قال الشاعر :
فأصبحت مما كان بيني وبينها |
|
من الودّ مثل القابض الماء باليد |
وقال الآخر :
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض |
|
على الماء خانته فروج الأصابع |
وقال الفرّاء : إنّ المراد بالماء هنا ماء البئر لأنها معدن للماء ، وأنه شبهه بمن مدّ يده إلى البئر بغير رشاء ، ضرب الله سبحانه هذا مثلا لمن يدعو غيره من الأصنام (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي : يضلّ عنهم ذلك الدعاء فلا يجدون منه شيئا ، ولا ينفعهم بوجه من الوجوه ، بل هو ضائع ذاهب (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي ، وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع والتذلل ، فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجنّ ؛ وأما في الكفار فلا يصح تأويل السجود بهذا في حقهم ، فلا بدّ أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى حقّ لله السجود ووجب حتى يتناول السجود بالفعل وغيره ، أو يفسر السجود بالانقياد ؛ لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره ، وحكمه فيهم بالصحة والمرض والحياة والموت والفقر والغنى ، ويدل على إرادة هذا المعنى قوله : (طَوْعاً وَكَرْهاً) فإن الكفار ينقادون كرها كما ينقاد المؤمنون طوعا ، وهما منتصبان على المصدرية ؛ أي : انقياد طوع وانقياد كره ، أو على الحال ، أي : طائعين وكارهين. وقال الفرّاء : الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعا ، وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين ، فالآية محمولة على هؤلاء ؛ وقيل : الآية في المؤمنين ، فمنهم من سجد طوعا لا يثقل عليه السجود ، ومنهم من يثقل عليه ؛ لأن التزام التكليف مشقة ولكنهم يتحمّلون المشقة إيمانا بالله وإخلاصا له (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) وظلالهم : جمع ظل ، والمراد به ظل الإنسان الذي يتبعه ، جعل ساجدا بسجوده حيث صار لازما له لا ينفكّ عنه. قال الزجاج وابن الأنباري : ولا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاما (١) تسجد بها لله سبحانه كما جعل للجبال أفهاما حتى اشتغلت بتسبيحه ، فظلّ المؤمن يسجد لله طوعا ، وظل الكافر يسجد لله كرها ، وخص الغدوّ والآصال بالذكر لأنه يزداد ظهور الظلال فيهما ، وهما ظرف للسجود المقدّر ، أي : ويسجد ظلالهم في هذين الوقتين.
__________________
(١). أي عقولا.