من أبلسه ، أي : أدخله في الإبلاس. وقد تقدّم في الأنعام. (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) امتنّ عليهم ببعض النعم التي أعطاهم ، وهي نعمة السمع والبصر (وَالْأَفْئِدَةَ) فصارت هذه الأمور معهم ليسمعوا المواعظ ، وينظروا العبر ، ويتفكروا بالأفئدة ، فلم ينتفعوا بشيء من ذلك لإصرارهم على الكفر وبعدهم عن الحق ، ولم يشكروه على ذلك ، ولهذا قال : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي : شكرا قليلا حقيرا غير معتدّ به باعتبار تلك النعم الجليلة. وقيل : المعنى : أنهم لا يشكرونه ألبتة ، لا أن لهم شكرا قليلا. كما يقال لجاحد النعمة : ما أقلّ شكره! أي : لا يشكره ، ومثل هذه الآية قوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ) (١). (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : بثّكم فيها كما تبثّ الحبوب لتنبت ، وقد تقدّم تحقيقه (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي : تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) على جهة الانفراد والاستقلال ، وفي هذا تذكير بنعمة الحياة ، وبيان الانتقال منها إلى الدار الآخرة (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) قال الفراء : هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض ، وقيل : اختلافهما : نقصان أحدهما وزيادة الآخر ، وقيل : تكرّرهما يوما بعد يوم وليلة بعد ليلة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) كنه قدرته وتتفكرون في ذلك. ثم بيّن سبحانه أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد المبنيّ على مجرد الاستبعاد ، فقال : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي : آباؤهم والموافقون لهم في دينهم. ثم بيّن ما قاله الأوّلون فقال : (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) فهذا مجرّد استبعاد لم يتعلّقوا فيه بشيء من الشبه ، ثم كملوا ذلك القول بقولهم : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي : وعدنا هذا البعث ووعده آباؤنا الكائنون من قبلنا فلم نصدّقه كما لم يصدقه من قبلنا ، ثم صرّحوا بالتكذيب وفرّوا إلى مجرد الزعم الباطل ، فقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : ما هذا إلا أكاذيب الأوّلين التي سطروها في الكتب ، جمع أسطورة كأحدوثة ، والأساطير : الأباطيل والتّرّهات والكذب.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح في قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) قال : عرفوه ولكنهم حسدوه. وفي قوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) قال : الحق الله عزوجل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) قال : بيّنّا لهم. وأخرجوا عنه في قوله : (عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) قال : عن الحقّ لحائدون. وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : جاء أبو سفيان إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز ، يعني : الوبر بالدم ، فأنزل الله (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) ، وأصل الحديث في الصحيحين «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال : اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف» الحديث. وأخرج ابن جرير ، وأبو نعيم في المعرفة ، والبيهقي في الدّلائل ، عن ابن عباس أن ابن أثال الحنفي لما أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأسلم وهو أسير فخلى سبيله لحق باليمامة ، فحال بين أهل مكة وبين الميرة
__________________
(١). الأحقاف : ٢٦.