أكبر من يعقوب ، وكانت عندها منطقة (١) إسحاق لكونها أسنّ أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سنا من ذكر أو أنثى ، وكانت قد حضنت يوسف وأحبته حبا شديدا ، فلما ترعرع قال لها يعقوب : سلّمي يوسف إليّ ، فأشفقت من فراقه ، واحتالت في بقائه لديها ، فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها ، ثم قالت : قد سرقت منطقة إسحاق فانظروا من سرقها ، فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل إبراهيم. وقد سبق بيان شريعتهم في السرقة. وقيل : إن يوسف أخذ صنما كان لجدّه أبي أمه فكسره وألقاه على الطريق تغييرا للمنكر. وحكي عن الزّجّاج أنه كان صنما من ذهب. وحكى الواحدي عن الزجّاج أنه قال : الله أعلم ، أسرق أخ له أم لا؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن الزجاج أنه قال : كذبوا عليه فيما نسبوه إليه. قلت : وهذا أولى ، فما هذه الكذبة بأوّل كذباتهم ، وقدّمنا ما يدفع قول من قال إنهم قد كانوا أنبياء عند صدور هذه الأمور منهم. قوله : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) قال الزجّاج وغيره : الضمير في أسرّها يعود إلى الكلمة أو الجملة ، كأنه قيل فأسرّ الجملة في نفسه (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) ثم فسرها بقوله : (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) وقد ردّ أبو عليّ الفارسي هذا فقال : إنّ هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل ؛ وقيل : الضمير عائد إلى الإجابة ، أي : أسرّ يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر ؛ وقيل : أسرّ في نفسه قولهم : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وهذا هو الأولى ، ويكون معنى (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أنه لم يبد لهم هذه المقالة التي أسرّها في نفسه بأن يذكر لهم صحّتها أو بطلانها ، وجملة (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) مفسّرة على القول الأوّل ، ومستأنفة على القولين الآخرين ، كأنه قيل : فماذا قال يوسف لما قالوا هذه المقالة؟ أي أنتم شرّ مكانا ، أي : موضعا ومنزلا ممن نسبتموه إلى السرقة وهو بريء ، فإنكم قد فعلتم ما فعلتم من إلقاء يوسف إلى الجبّ والكذب على أبيكم وغير ذلك من أفاعيلكم ، ثم قال : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) من الباطل بنسبة السرقة إلى يوسف ، وأنه لا حقيقة لذلك. ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق لهم أخاهم بنيامين يكون معهم يرجعون به إلى أبيهم لما تقدّم من أخذه الميثاق عليهم بأن يردّوه إليه ، (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) أي إنّ لبنيامين هذا أبا متّصفا بهذه الصفة ، وهو كونه شيخا كبيرا لا يستطيع فراقه ولا يصبر عنه ولا يقدر على الوصول إليه (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) يبقى لديك ، فإن له منزلة في قلب أبيه ليست لواحد منا فلا يتضرّر بفراق أحدنا كما يتضرّر بفراق بنيامين ، ثم علّلوا ذلك بقولهم : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلى الناس كافة ، وإلينا خاصة ، فتمّم إحسانك إلينا بإجابتنا إلى هذا المطلب ، فأجاب يوسف عليهم بقوله : (مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي نعوذ بالله معاذا ، فهو مصدر منصوب بفعل محذوف ، والمستعيذ بالله هو المعتصم به ، وأن نأخذ منصوب بنزع الخافض ، والأصل من أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ، وهو بنيامين لأنه الذي وجد الصواع في رحله فقد حلّ لنا استعباده بفتواكم التي أفتيتمونا بقولكم : (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) ، (إِنَّا إِذاً
__________________
(١). المنطقة : المنطق ، وهو ما يشدّ به الوسط.