غفلة بالدنيا معرضون عن الآخرة ، غير متأهبين بما يجب عليهم من الإيمان بالله ، والقيام بفرائضه ، والانزجار عن مناهيه (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) من لابتداء الغاية ، وقد استدلّ بوصف الذكر لكونه محدثا على أن القرآن محدث ؛ لأن الذكر هنا هو القرآن. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف ؛ لأنه متجدد في النزول. فالمعنى محدث تنزيله ، وإنما النزاع في الكلام النفسي ، وهذه المسألة : أعني قدم القرآن وحدوثه قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية ، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل ، وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي ، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده ، والقصة أشهر من أن تذكر ، ومن أحبّ الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب «النبلاء» لمؤرخ الإسلام الذهبي. ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه ، وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع ، ولكنهم رحمهمالله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه ولم يقتصروا على ذلك حتى كفّروا من قال بالحدوث ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال لفظي : القرآن مخلوق ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف ، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب ، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام ، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك ، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه ، والتمسّك بأذيال الوقف ، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى ، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله ، والأمر لله سبحانه. وقوله : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) استثناء مفرغ في محل نصب على الحال ، وجملة (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) في محل نصب على الحال أيضا من فاعل استمعوه ، و (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حال أيضا ، والمعنى : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في الاستماع مع اللعب والاستهزاء ولهوة القلوب ، وقرئ «لاهية» بالرفع ، كما قرئ «محدث» بالرفع (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) النجوى : اسم من التناجي ، والتناجي لا يكون إلا سرّا ، فمعنى إسرار النجوى : المبالغة في الإخفاء. وقد اختلف في محل الموصول على أقوال ، فقيل : إنه في محل رفع بدل من الواو في (أَسَرُّوا) ، قاله المبرد وغيره ؛ وقيل : هو في محل رفع على الذمّ ؛ وقيل : هو فاعل لفعل محذوف ، والتقدير : يقول الذين ظلموا ، واختار هذا النحاس ؛ وقيل : في محل نصب بتقدير أعني ، وقيل : في محل خفض على أنه بدل من الناس ذكر ذلك المبرد ؛ وقيل : هو في محل رفع على أنه فاعل «أسرّوا» على لغة من يجوّز الجمع بين فاعلين ، كقولهم : أكلوني البراغيث ، ذكر ذلك الأخفش ، ومثله (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) ومنه قول الشاعر :
فاهتدين النّبال للأغراض (١)
__________________
(١). وصدره : بك نال النّضال دون المساعي.