عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))
قوله : (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ) يقال : آمن له وآمن به ، فمن الأوّل قوله : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (١) ، ومن الثاني : قوله في الأعراف : (آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) (٢). وقيل : إن الفعل هنا متضمّن معنى الاتباع. وقرئ على الاستفهام التوبيخي ، أي : كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم بذلك (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي : إن موسى لكبيركم ، أي : أسحركم وأعلاكم درجة في صناعة السحر ، أو معلّمكم وأستاذكم ، كما يدلّ عليه قوله : (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) قال الكسائي : الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال : جئت من عند كبيري. وقال محمد بن إسحاق : إنه لعظيم السحر. قال الواحدي : والكبير في اللغة : الرئيس ، ولهذا يقال للمعلم : الكبير. أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا ، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلّموا من موسى ، ولا كان رئيسا لهم ، ولا بينه وبينهم مواصلة (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي : والله لأفعلنّ بكم ذلك (٣) ، والتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، ومن للابتداء (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي : على جذوعها ، كقوله : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) (٤) أي : عليه ، ومنه قول سويد بن أبي كاهل :
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة |
|
فلا عطست شيبان إلا بأجدعا |
وإنما آثر كلمة (فِي) للدلالة على استقرارهم عليها كاستقرار المظروف في الظرف (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) أراد : لتعلمنّ هل أنا أشدّ عذابا لكم أم موسى؟ ومعنى أبقى : أدوم ، وهو يريد بكلامه هذا الاستهزاء بموسى ؛ لأن موسى لم يكن من التعذيب في شيء ، ويمكن أن يريد العذاب الذي توعّدهم به موسى إن لم يؤمنوا ؛ وقيل : أراد بموسى ربّ موسى على حذف المضاف (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) أي : لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله سبحانه ؛ كاليد والعصا. وقيل : إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه في سجودهم من المنازل المعدّة لهم في الجنة (وَالَّذِي فَطَرَنا) معطوف على «ما جاءنا» ، لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات ، وعلى الذي فطرنا ، أي : خلقنا ، وقيل : هو قسم ، أي : والله الذي فطرنا لن نؤثرك ، أو لا نؤثرك ، وهذان الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفرّاء والزجّاج. (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) هذا جواب منهم لفرعون لما قال لهم «لأقطعنّ» إلخ ، والمعنى : فاصنع ما أنت صانع ، واحكم ما أنت حاكم ، والتقدير : ما أنت صانعه (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الدنيا ، ولا سبيل لك علينا فيما بعدها ، فاسم الإشارة في محل نصب على الظرفية أو على المفعولية ، وما كافّة ، وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل ما بمعنى الذي ، أي : أن الذي تقضيه هذه الحياة
__________________
(١). العنكبوت : ٢٦.
(٢). الأعراف : ١٢٣.
(٣). فرعون كان ينكر وجود الله تعالى. ولعله أقسم بنفسه.
(٤). الطور : ٣٨.