بعض الخلق من الجنّ والإنس يموج في بعض ؛ وقيل : المعنى : وتركنا يأجوج ومأجوج يوم كمال السدّ وتمام عمارته بعضهم يموج في بعض ، وقد تقدّم تفسير (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) في الأنعام ، قيل : هي النفخة الثانية بدليل قوله بعد (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) فإن الفاء تشعر بذلك ، ولم يذكر النفخة الأولى ؛ لأن المقصود هنا ذكر أحوال القيامة.
والمعنى : جمعنا الخلائق بعد تلاشي أبدانهم ومصيرهم ترابا جمعا تاما على أكمل صفة وأبدع هيئة وأعجب أسلوب (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) المراد بالعرض هنا الإظهار ، أي : أظهرنا لهم جهنم حتى شاهدوها يوم جمعنا لهم ، وفي ذلك وعيد للكفار عظيم لما يحصل معهم عند مشاهدتها من الفزع والروعة. ثم وصف الكافرين المذكورين بقوله : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي : كانت أعينهم في الدنيا في غطاء وهو ما غطّى الشيء وستره من جميع الجوانب (عَنْ ذِكْرِي) عن سبب ذكري ، وهو الآيات التي يشاهدها من له تفكّر واعتبار ، فيذكر الله بالتوحيد والتمجيد ، فأطلق المسبّب على السبب ، أو عن القرآن العظيم ، وتأمّل معانيه وتدبّر فوائده. ثم لما وصفهم سبحانه بالعمى عن الدلائل التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما ، أراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال : (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي : لا يقدرون على الاستماع لما فيه الحق من كلام الله وكلام رسوله ، وهذا أبلغ ممّا لو قال وكانوا صما ؛ لأن الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وهؤلاء لا استطاعة لهم بالكلية ، وفي ذكر غطاء الأعين وعدم استطاعة السماع تمثيل لتعاميهم عن المشاهدة بالأبصار وإعراضهم عن الأدلة السمعية (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الحسبان هنا بمعنى الظنّ ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدّر ، كنظائره. والمعنى : أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبّر آيات الله ، وتمرّدهم عن قبول الحق ، ومعنى (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي) أي : يتخذوهم من دون الله ، وهم الملائكة والمسيح والشياطين (أَوْلِياءَ) أي : معبودين ، قال الزجّاج : المعنى أيحسبون أن ينفعهم ذلك ، وقرئ (أَفَحَسِبَ) بسكون السين ، ومعناه أكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على أنه مبتدأ وخبر ، يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) أي : هيأناها لهم نزلا يتمتعون به عند ورودهم. قال الزجّاج : النزل : المأوى والمنزل ، وقيل : إنه الذي يعدّ للضيف ، فيكون تهكما بهم كقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) ، والمعنى : أن جهنم معدّة لهم عندنا كما يعد النزل للضيف (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) انتصاب أعمالا على التّمييز ، والجمع للدلالة على إرادة الأنواع منها ، ومحل الموصول وهو (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الفعل على أنه خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : من هم؟ فقيل : هم الذين ضلّ سعيهم ، والمراد بضلال السعي بطلانه وضياعه ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذمّ ، ويكون الجواب (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) ويجوز أن يكون في محل جرّ على أنه نعت للأخسرين أو بدل منه ، ويكون الجواب أيضا هو أولئك وما بعده ، وأوّل هذه الوجوه هو أولاها ، وجملة (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) في محل نصب على الحال من
__________________
(١). آل عمران : ٢١.