فكيف يقال لهم بعد ذلك ادخلوها على قراءة الجمهور؟ فإن الأمر لهم بالدخول يشعر بأنهم لم يكونوا فيها. وأجيب بأن المعنى أنهم لما صاروا في الجنات ، فإذا انتقلوا من بعضها إلى بعض يقال لهم عند الوصول إلى التي أرادوا الانتقال إليها ادخلوها ، ومعنى (بِسَلامٍ آمِنِينَ) بسلامة من الآفات ، وأمن من المخافات ، أو مسلمين على بعضهم بعضا ، أو مسلما عليهم من الملائكة ، أو من الله عزوجل. (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) الغلّ : الحقد والعداوة ، وقد مرّ تفسيره في الأعراف ، وانتصاب (إِخْواناً) على الحال ، أي : إخوة في الدين والتعاطف (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي : حال كونهم على سرر ، وعلى صورة مخصوصة وهي التقابل ، ينظر بعضهم إلى وجه بعض ، والسرر جمع سرير ، وقيل : هو المجلس الرفيع المهيّأ للسرور ، ومنه قولهم : سرّ الوادي ؛ لأفضل موضع منه (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي : تعب وإعياء ؛ لعدم وجود ما يتسبب عنه ذلك في الجنة ؛ لأنها نعيم خالص ، ولذّة محضة ، تحصل لهم بسهولة ، وتوافيهم مطالبهم بلا كسب ولا جهد ، بل بمجرد خطور شهوة الشيء بقلوبهم يحصل ذلك الشيء عندهم صفوا عفوا (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أبدا ، وفي هذا الخلود الدائم وعلمهم به تمام اللذة وكمال النعيم ، فإنّ علم من هو في نعمة ولذّة بانقطاعها وعدمها بعد حين موجب لتنغص نعيمه وتكدّر لذّته ، ثم قال سبحانه بعد أن قصّ علينا ما للمتقين عنده من الجزاء العظيم والأجر الجزيل (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي : أخبرهم يا محمد أني أنا الكثير المغفرة لذنوبهم ، الكثير الرحمة لهم ، كما حكمت به على نفسي : «إنّ رحمتي سبقت غضبي». اللهم اجعلنا من عبادك الذين تفضلت عليهم بالمغفرة ، وأدخلتهم تحت واسع الرحمة. ثم إنه سبحانه لما أمر رسوله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة ، أمره بأن يذكر لهم شيئا ممّا يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف ، ويتقابل التبشير والتحذير ليكونوا راجين خائفين فقال : (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) أي : الكثير الإيلام ، وعند ما جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير والتحذير صاروا في حالة وسطا بين اليأس والرجاء ، وخير الأمور أوساطها ، وهي القيام على قدمي الرجاء والخوف ، وبين حالتي الأنس والهيبة ، وجملة (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) معطوفة على جملة نبىء عبادي ؛ أي : أخبرهم بما جرى على إبراهيم من الأمر الذي اجتمع فيه له الرجاء والخوف ، والتبشير الذي خالطه نوع من الوجل ليعتبروا بذلك ويعلموا أنها سنّة الله سبحانه في عباده. وأيضا لما اشتملت القصة على إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين ؛ كان في ذلك تقديرا لكونه الغفور الرحيم وأن عذابه هو العذاب الأليم ، وقد مرّ تفسير هذه القصة في سورة هود ، وانتصاب (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) بفعل مضمر معطوف على (نَبِّئْ عِبادِي) أي : واذكر لهم دخولهم عليه ، أو في محل نصب على الحال ، والضيف في الأصل مصدر ، ولذلك وحّد وإن كانوا جماعة ، وسمي ضيفا لإضافته إلى المضيف (فَقالُوا سَلاماً) أي : سلمنا سلاما (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي : فزعون خائفون ، وإنما قال هذا بعد أن قرّب إليهم العجل فرآهم لا يأكلون منه ، كما تقدم في سورة هود : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) (١). وقيل : أنكر السلام منهم لأنه لم يكن في بلادهم ، وقيل : أنكر دخولهم عليه بغير استئذان
__________________
(١). هود : ٧٠.