أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم ، وحقيقته إضافة خلق إلى خالق ، فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما ، قال : ومثله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) (١) ، وقد تقدّم في النساء (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) الفاء تدلّ على أن سجودهم واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير تراخ ، وهو أمر بالوقوع من وقع يقع. وفيه دليل على أن المأمور به هو السجود لا مجرّد الانحناء كما قيل ، وهذا السجود هو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة ، ولله أن يكرم من يشاء من مخلوقاته كيف يشاء بما يشاء ، وقيل : كان السجود لله تعالى وكان آدم قبلة لهم (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) أخبر سبحانه بأن الملائكة سجدوا جميعا عند أمر الله سبحانه لهم بذلك من غير تراخ ، قال المبرد : قوله : (كُلُّهُمْ) أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجد ، وقوله : (أَجْمَعُونَ) توكيد بعد توكيد ، ورجّح هذا الزجّاج. قال النيسابوري : وذلك لأن أجمع معرفة فلا يقع حالا ولو صح أن يكون حالا لكان منتصبا ، ثم استثنى إبليس من الملائكة فقال : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) قيل : هذا الاستثناء متصل لكونه كان من جنس الملائكة ، ولكنه أبى ذلك استكبارا واستعظاما لنفسه وحسدا لآدم ، فحقّت عليه كلمة الله ؛ وقيل : إنه لم يكن من الملائكة ، ولكنه كان معهم ، فغلب اسم الملائكة عليه وأمر بما أمروا به ، فكان الاستثناء بهذا الاعتبار متصلا ؛ وقيل : إن الاستثناء منفصل بناء على عدم كونه منهم ، وعدم تغليبهم عليه ، أي : ولكن إبليس أبى أن يكون مع الساجدين وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة البقرة. وجملة (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) استئناف مبين لكيفية ما فيهم من الاستثناء من عدم السجود ؛ لأنّ عدم السجود قد يكون مع التردّد ، فبيّن سبحانه أنه كان على وجه الإباء ، وجملة (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) مستأنفة أيضا جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال الله سبحانه لإبليس بعد أن أبى السجود؟ وهذا الخطاب له ليس للتشريف والتكريم ، بل للتقريع والتوبيخ ، والمعنى : أيّ غرض لك في الامتناع؟ وأيّ سبب حملك عليه على أن لا تكون مع الساجدين لآدم مع الملائكة؟ وهم في الشرف وعلوّ المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها ، وجملة (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) مستأنفة كالتي قبلها ، جعل العلّة لترك سجوده كون آدم بشرا مخلوقا من صلصال من حمأ مسنون زعما منه أنه مخلوق من عنصر أشرف من عنصر آدم ، وفيه إشارة إجمالية في كونه خيرا منه. وقد صرّح بذلك في موضع آخر ، فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢) ، وقال في موضع آخر : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (٣) ، واللام في لأسجد لتأكيد النفي ، أي : لا يصح ذلك مني ، فأجاب الله سبحانه عليه بقوله : (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) والضمير في منها ، قيل : عائد إلى الجنة ، وقيل : إلى السماء ، وقيل : إلى زمرة الملائكة ، أي : فاخرج من زمرة الملائكة ؛ فإنك رجيم ، أي : مرجوم بالشهب. وقيل : معنى رجيم ملعون ، أي : مطرود ، لأن من يطرد يرجم بالحجارة (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي : عليك الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه مستمرا عليك لازما لك إلى يوم الجزاء ، وهو يوم القيامة ، وجعل يوم الدين غاية للّعنة لا يستلزم انقطاعها
__________________
(١). النساء : ١٧١.
(٢). ص : ٧٦.
(٣). الإسراء : ٦١.