وقع من بني إسرائيل في الابتداء من مخالفة أحكام التوراة ، وقتل شعيا ، ثم تاب الله عليهم حين تابوا ، فكشف عنهم القحط (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) وهذا إشارة إلى ما وقع منهم بعد التوبة من قتل يحيى بن زكريا وقصدهم قتل عيسى ، وارتفاع (كَثِيرٌ) على البدل من الضمير في الفعلين. قال الأخفش : كما تقول رأيت قومك ثلاثتهم ، وإن شئت كان على إضمار مبتدأ : أي العمي والصمّ كثير منهم ، ويجوز أن يكون كثير مرتفعا على الفاعلية على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، ومنه قوله الشاعر :
ولكن ديافيّ أبوه وأمّه |
|
بحوران يعصرن السّليط أقاربه (١) |
وقرئ (عَمُوا وَصَمُّوا) بالبناء للمفعول : أي أعماهم الله وأصمهم. قوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض فضائح أهل الكتاب ، والقائلون بهذه المقالة هم فرقة منهم : يقال لهم : اليعقوبية ؛ وقيل : هم الملكانية ، قالوا : إن الله عزوجل حلّ في ذات عيسى ، فردّ الله عليهم بقوله : (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي والحال أنه قد قال المسيح هذه المقالة ، فكيف يدّعون الإلهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم؟ قوله : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) الضمير للشأن ، وهذا كلام مبتدأ يتضمن بيان أن الشرك يوجب تحريم دخول الجنة ؛ وقيل : هو من قول عيسى (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم فيدخلونهم الجنة أو يخلصونهم من النار. قوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وهذا كلام أيضا مبتدأ لبيان بعض مخازيهم ، والمراد بثالث ثلاثة واحد من ثلاثة ، ولهذا يضاف إلى ما بعده ، ولا يجوز فيه التنوين كما قال الزجاج وغيره ، وإنما ينوّن وينصب ما بعده إذا كان ما بعده دونه بمرتبة نحو ثالث اثنين ورابع ثلاثة ، والقائل بأنه سبحانه وتعالى ثالث ثلاثة هم النصارى ، والمراد بالثلاثة : الله سبحانه ، وعيسى ، ومريم كما يدل عليه قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) (٢) وهذا هو المراد بقولهم ثلاثة أقانيم : إقنيم (٣) الأب ، وإقنيم الابن ، وإقنيم روح وقد تقدّم في سورة النساء كلام في هذا ، ثم ردّ الله سبحانه عليهم هذه الدعوى الباطلة فقال : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ليس في الوجود إلا الله سبحانه ، وهذه الجملة حالية ، والمعنى : قالوا تلك المقالة ، والحال أنه لا موجود إلا الله ، ومن في قوله : (مِنْ إِلهٍ) لتأكيد الاستغراق المستفاد من النفي (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) من الكفر (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جواب قسم محذوف سادّ مسدّ جواب الشرط ، ومن في (مِنْهُمْ) بيانية أو تبعيضية (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) الفاء للعطف على مقدّر ، والهمزة للإنكار. قوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي هو مقصور على الرسالة ، لا يجاوزها كما زعمتم ، وجملة (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة لرسول : أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله ، وما وقع منه من المعجزات لا يوجب كونه إلها ، فقد
__________________
(١). البيت للفرزدق. «دياف» : قرية بالشام. «السليط» : الزيت.
(٢). المائدة : ١١٦.
(٣). في معاجم اللغة : أقنوم.