كان لمن قبله من الرسل مثلها ، فإنّ الله أحيا العصا في يد موسى ، وخلق آدم من غير أب ، فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ووجوده من غير أب يوجبان كونه إلها ، فإن كان كما تزعمون إلها لذلك فمن قبله من الرسل الذين جاءوا بمثل ما جاء به آلهة ، وأنتم لا تقولون بذلك. قوله : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) عطف على المسيح : أي وما أمه إلا صدّيقة : أي صادقة فيما تقوله أو مصدّقة لما جاء به ولدها من الرسالة ، وذلك لا يستلزم الإلهية لها ، بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء. قوله : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) استئناف يتضمّن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر : أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس بربّ ، بل وعبد مربوب ولدته النساء ، فمتى يصلح لأن يكون ربا؟ وأما قولكم إنه كان يأكل الطعام بناسوته لا لاهوته ، فهو كلام باطل يستلزم اختلاط الإله بغير الإله واجتماع الناسوت واللاهوت ، لو جاز اختلاط القديم الحادث لجاز أن يكون القديم حادثا ، ولو صحّ هذا في حق عيسى لصح في حق غيره من العباد (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أي الدلالات ، وفيه تعجيب من حال هؤلاء الذين يجعلون تلك الأوصاف مستلزمة للإلهية ويغفلون عن كونها موجودة في من لا يقولون بأنه إله (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟ يقال : أفكه يأفكه إذا صرفه. وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في العجيب ، وجاء ب (ثُمَ) لإظهار ما بين العجبين من التفاوت.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : جاء نافع ابن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حرملة فقالوا : يا محمد! ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله حق؟ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «بلى ، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكفرتم منها بما أمرتم أن تبينوه للناس ، فبرئت من إحداثكم» قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا وإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك ، فأنزل الله فيهم : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إلى قوله : (الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) قال : بلاء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السديّ نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) قال : النصارى يقولون إن الله ثالث ثلاثة وكذبوا. أخرج ابن أبي حاتم عنه قال : تفرّقت بنو إسرائيل ثلاث فرق في عيسى ، فقالت فرقة هو الله ، وقالت فرقة هو ابن الله ، وقالت فرقة هو عبد الله وروحه ، وهي المقتصدة وهي مسلمة أهل الكتاب.
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ