(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي : ابتدأ خلقكم من الأرض ، لأن كل بني آدم من صلب آدم ، وهو مخلوق من الأرض (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي : جعلكم عمارها وسكانها ، من قولهم : أعمر فلان فلانا داره فهي له عمرى ، فيكون استفعل بمعنى أفعل ، مثل : استجاب بمعنى أجاب. وقال الضحاك : معناه : أطال أعماركم ، وكانت أعمارهم من ثلاثمائة إلى ألف ؛ وقيل : معناه : أمركم بعمارتها من بناء المساكن وغرس الأشجار (فَاسْتَغْفِرُوهُ) أي : سلوه المغفرة لكم من عبادة الأصنام (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي : ارجعوا إلى عبادته (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) أي : قريب الإجابة لمن دعا ، وقد تقدّم القول فيه في البقرة عند قوله تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) (١) (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي : كنا نرجو أن تكون فينا سيدا مطاعا ننتفع برأيك ، ونسعد بسيادتك قبل هذا الذي أظهرته ، من ادّعائك النبوّة ، ودعوتك إلى التوحيد ؛ وقيل : كان صالح يعيب آلهتهم وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم ، فلما دعاهم إلى الله قالوا : انقطع رجاؤنا منك ، والاستفهام في قوله : (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) للإنكار ، أنكروا عليه هذا النهي ، وأن نعبد : في محل نصب بحذف الجار ، أي : بأن نعبد ، ومعنى : ما يعبد آباؤنا : ما كان يعبد آباؤنا ، فهو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) من أربته فأنا أريبه : إذا فعلت به فعلا يوجب له الريبة ، وهي : قلق النفس وانتفاء الطمأنينة ، أو من أراب الرجل : إذا كان ذا ريبة ، والمعنى : إننا لفي شك مما تدعونا إليه من عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان موقع في الريب (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : حجّة ظاهرة ، وبرهان صحيح (وَآتانِي مِنْهُ) أي : من جهته (رَحْمَةً) أي : نبوّة ، وهذه الأمور وإن كانت متحققة الوقوع ، لكنها صدّرت بكلمة الشك اعتبارا بحال المخاطبين ، لأنهم في شك من ذلك ، كما وصفوه عن أنفسهم (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) استفهام معناه النفي ، أي : لا ناصر لي يمنعني من عذاب الله (إِنْ عَصَيْتُهُ) في تبليغ الرسالة ، وراقبتكم ، وفترت عما يجب عليّ من البلاغ (فَما تَزِيدُونَنِي) بتثبيطكم إياي (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) بأن تجعلوني خاسرا بإبطال عملي ، والتعرّض لعقوبة الله لي. قال الفراء : أي : تضليل وإبعاد من الخير ؛ وقيل المعنى : فما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم. قوله : (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) قد مرّ تفسير هذه الآية في الأعراف ، ومعنى لكم آية : معجزة ظاهرة ، وهي منتصبة على الحال ، ولكم في محل نصب على الحال من آية مقدّمة عليها ، ولو تأخرت لكانت صفة لها ؛ وقيل : إن ناقة : الله بدل من هذه ، والخبر لكم ، والأوّل أولى ؛ وإنما قال : (ناقَةُ اللهِ) لأنه أخرجها لهم من جبل على حسب اقتراحهم ؛ وقيل : من صخرة صماء (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أي : دعوها تأكل في أرض الله مما فيها من المراعي التي تأكلها الحيوانات. قال أبو إسحاق الزجّاج : ويجوز رفع تأكل على الحال والاستئناف ، ولعله يعني في الأصل على ما تقتضيه لغة العرب لا في الآية ، فالمعتمد القراءات المروية على وجه الصحة (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) قال الفراء : بعقر ، والظاهر أن النهي عما هو أعمّ من ذلك (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) جواب النهي ، أي : قريب من عقرها ، وذلك ثلاثة أيام (فَعَقَرُوها) أي : فلم يمتثلوا الأمر من صالح ولا النهي ، بل خالفوا كل ذلك فوقع منهم
__________________
(١). البقرة : ١٨٦.