قال فيما تقدّم في قصة نوح : مالا ، وهنا قال : أجرا : لذكر الخزائن بعده في قصة نوح ، ولفظ المال بها أليق ، ثم أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة. والمعنى : اطلبوا مغفرته لما سلف من ذنوبكم ، ثم توسلوا إليه بالتوبة. وقد تقدّم زيادة بيان لمثل هذا في قصة نوح ، ثم رغبهم في الإيمان بالخير العاجل ، فقال (يُرْسِلِ السَّماءَ) أي : المطر (عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي : كثير الدّرور ، وهو منصوب على الحال ، درّت السماء تدرّ وتدرّ فهي مدرار ، وكان قوم هود أهل بساتين وزرع وعمارة ، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) معطوف على يرسل ، أي : شدّة مضافة إلى شدّتكم ، أو : خصبا إلى خصبكم ، أو : عزّا إلى عزّكم. قال الزجاج : المعنى يزدكم قوّة في النعم (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) أي : لا تعرضوا عما أدعوكم إليه ، وتقيموا على الكفر مصرّين عليه ، والإجرام : الآثام كما تقدّم ، ثم أجابه قومه بما يدلّ على فرط جهالتهم ، وعظيم غباوتهم ، ف (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) أي : بحجة واضحة نعمل عليها ، ونؤمن لك بها غير معترفين بما جاءهم به من حجج الله وبراهينه عنادا وبعدا عن الحق (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) التي نعبدها من دون الله. ومعنى (عَنْ قَوْلِكَ) صادرين عن قولك ، فالظرف في محل نصب على الحال (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي : بمصدّقين في شيء مما جئت به (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) أي : ما نقول إلا أنه أصابك بعض آلهتنا التي تعيبها وتسفّه رأينا في عبادتها بسوء : بجنون ، حتى نشأ عن جنونك ما تقوله لنا وتكرره علينا من التنفير عنها ، يقال عراه الأمر واعتراه : إذا ألمّ به ، فأجابهم بما يدلّ على عدم مبالاته بهم وعلى وثوقه بربه وتوكله عليه ، وأنهم لا يقدرون على شيء مما يرده الكفار به ، بل الله سبحانه هو الضار النافع ف (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا) أنتم (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) به (مِنْ دُونِهِ) أي : من إشراككم من دون الله من غير أن ينزل به سلطانا (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) أنتم وآلهتكم إن كانت كما تزعمون من أنها تقدر على الإضرار بي وأنها اعترتني بسوء (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أي : لا تمهلوني ، بل عاجلوني واصنعوا ما بدا لكم ؛ وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصكّ مسامعهم ، ويوضح عجزهم وعدم قدرتهم على شيء (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) فهو يعصمني من كيدكم ، وإن بلغتم في تطلب وجوه الإضرار بي كل مبلغ ، فمن توكل على الله كفاه. ثم لما بين لهم توكله على الله ، وثقته بحفظه وكلاءته ؛ وصفه بما يوجب التوكل عليه ، والتفويض إليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم ، وأنه مالك للجميع ، وأن ناصية كل دابة من دوابّ الأرض بيده ، وفي قبضته وتحت قهره ، وهو تمثيل لغاية التسخير ونهاية التذليل ، وكانوا إذا أسروا الأسير وأرادوا إطلاقه ، والمنّ عليه جزوا ناصيته فجعلوا ذلك علامة لقهره. قال الفراء : معنى آخذ بناصيتها : مالكها والقادر عليها ، وقال القتبي : قاهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته ، والناصية قصاص الشعر من مقدّم الرأس ، ثم علل ما تقدّم بقوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : هو على الحق والعدل فلا يكاد يسلطكم عليّ (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : تتولوا فحذفت إحدى التاءين ، والمعنى فإن تستمروا على الإعراض عن الإجابة ، والتصميم على ما أنتم عليه من الكفر (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) ليس عليّ إلا ذلك ، وقد لزمتكم الحجة (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) جملة مستأنفة لتقرير الوعيد بالهلاك ، أي :