يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا ، ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه ، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير. قوله : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بالنصب أيضا في الكل إلا في الجروح فبالرفع. وقرأ الكسائي وأبو عبيد بالرفع في الجميع عطفا على المحل ، لأنّ النفس قبل دخول الحرف الناصب عليها كانت مرفوعة على الابتداء. وقال الزجاج : يكون عطفا على المضمر في النفس ، لأن التقدير : إنّ النفس هي مأخوذة بالنفس ، فالأسماء معطوفة على هي. قال ابن المنذر : ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمّن بيان الحكم للمسلمين. والظاهر من النظم القرآني أنّ العين إذا فقئت حتى لم يبق مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها ، والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها ، والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها ، وكذلك السنّ ؛ فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين ، أو ببعض الأنف ، أو ببعض الأذن ، أو ببعض السنّ ، فليس في هذه الآية ما يدلّ على ثبوت القصاص.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته ، وكلامهم مدوّن في كتب الفروع. والظاهر من قوله : (وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات ، وأنه يؤخذ بعضها ببعض ، ولا فضل لبعضها على بعض. وإليه ذهب أكثر أهل العلم ، كما قال ابن المنذر ، وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه ، وكلامهم مدوّن في مواطنه ، ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسنّ المأخوذة من المجنيّ عليه ، فإن كانت ذاهبة فما يليها. قوله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي ذوات قصاص. وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف ، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقا أو طولا أو عرضا. وقد قدّر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة ، وليس هذا موضع بيان كلامهم ، ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدّر. قوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي من تصدّق من المستحقين للقصاص بالقصاص ، بأن عفا عن الجاني فهو كفارة للمتصدّق يكفر الله عنه بها ذنوبه. وقيل : إن المعنى : فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه. والأوّل أرجح ، لأنّ الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور. قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ضمير الفصل مع اسم الإشارة وتعريف الخبر يستفاد منها أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية. قوله : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) هذا شروع في بيان حكم الإنجيل بعد بيان حكم التوراة ؛ أي جعلنا عيسى ابن مريم يقفو آثارهم ؛ أي آثار النبيين الذين أسلموا من بني إسرائيل ، يقال قفيته مثل عقبته : إذا أتبعته ؛ ثم يقال : قفيته بفلان وعقبته به فيتعدى إلى الثاني بالباء ، والمفعول الأول محذوف استغناء عنه بالظرف ، وهو على آثارهم لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه ، وانتصاب (مُصَدِّقاً) على الحال من عيسى (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) عطف على قفينا ، ومحل الجملة أعني (فِيهِ هُدىً) النصب على الحال من الإنجيل (وَنُورٌ) عطف على هدى. وقوله : (وَمُصَدِّقاً) معطوف على محل (فِيهِ هُدىً) أي أن الإنجيل أوتيه عيسى حال كونه