كما تراه عيانا ، وتعلمه وجدانا. والحاصل أن من كذب بالحجّة النّيرة والبرهان الواضح قبل أن يحيط بعلمه ، فهو لم يتمسّك بشيء في هذا التكذيب إلا مجرد كونه جاهلا لما كذب به غير عالم به ، فكان بهذا التكذيب مناديا على نفسه بالجهل بأعلى صوت ، ومسجلا بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل ، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء :
ما يبلغ الأعداء من جاهل |
|
ما يبلغ الجاهل من نفسه |
قوله : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) معطوف على : (لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وبما لم يأتهم تأويله ، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به ، ولا بلغته عقولهم. والمعنى : أنّ التّكذيب منهم وقع قبل الإحاطة بعلمه ، وقبل أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدّمين والأمم السابقين ، ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها ، أو قبل أن يفهموه حق الفهم وتتعقله عقولهم ، فإنهم لو تدبروه كلية التدبر لفهموه كما ينبغي ، وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله ؛ وعلى هذا : فمعنى : تأويله ، ما يؤول إليه لمن تدبره من المعاني الرشيقة واللطائف الأنيقة ، وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأوّل (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : مثل ذلك التّكذيب كذب الذين من قبلهم من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه ، فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه ، وقبل أن يأتيهم تأويله (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) من الأمم السالفة من سوء العاقبة بالخسف ، والمسخ ، ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم ، كما حكى ذلك القرآن عنهم ، واشتملت عليه كتب الله المنزّلة عليهم. قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي : ومن هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن من يؤمن به في نفسه ، ويعلم أنه صدق وحق ، ولكنه كذب به مكابرة وعنادا ، وقيل : المراد : ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن كذب به في الحال ، والموصول مبتدأ ، وخبره منهم (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) ولا يصدّقه في نفسه ، بل كذب به جهلا كما مرّ تحقيقه ، أو لا يؤمن به في المستقبل ، بل يبقى على جحوده وإصراره ؛ وقيل : الضمير في الموضعين ، للنبيّ صلىاللهعليهوسلم. وقد قيل : إن هذا التقسيم خاص بأهل مكة ، وقيل عام في جميع الكفار (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) فيجازيهم بأعمالهم ، والمراد بهم : المصرّون المعاندون ، أو بكلا الطائفتين ، وهم الذين يؤمنون به في أنفسهم ويكذبون به في الظاهر ، والذين يكذبون به جهلا ، أو الذين يؤمنون به في المستقبل ، والذين لا يؤمنون به. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلىاللهعليهوسلم بأن يقول لهم إن أصرّوا على تكذيبه واستمرّوا عليه : (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي : لي جزاء عملي ، ولكم جزاء عملكم فقد أبلغت إليكم ما أمرت بإبلاغه ، وليس عليّ غير ذلك ، ثم أكد هذا بقوله : (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي : لا تؤاخذون بعملي ، ولا أؤاخذ بعملكم. وقد قيل : إن هذا منسوخ بآية السيف ، كما ذهب إليه جماعة من المفسرين.