لا يفترى. قال الكسائي والفراء : إن التقدير في قوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ) : ولكن كان تصديق ، ويجوز عندهما الرفع ، أي : ولكن هو تصديق ؛ وقيل المعنى : ولكن القرآن تصديق (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب ، أي : أنها قد بشرت به قبل نزوله فجاء مصدّقا لها ؛ وقيل المعنى : ولكن تصديق النبيّ الذي بين يدي القرآن ، وهو محمد صلىاللهعليهوسلم لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن. قوله (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) عطف على قوله (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) فجيء فيه الرفع والنصب على الوجهين المذكورين في تصديق ، والتّفصيل : التبيين ؛ أي : يبين ما في كتب الله المتقدّمة ، والكتاب : للجنس ؛ وقيل : أراد ما بين في القرآن من الأحكام ، فيكون المراد بالكتاب : القرآن. قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) الضمير عائد إلى القرآن ، وهو داخل في حكم الاستدراك خبر ثالث ، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من الكتاب ، ويجوز أن تكون الجملة استئنافية لا محل لها ، و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر رابع ، أي : كائن من ربّ العالمين ، ويجوز أن يكون حالا من الكتاب ، أو من ضمير القرآن في قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : كائنا من ربّ العالمين ، ويجوز أن يكون متعلقا بتصديق وتفصيل ، وجملة (لا رَيْبَ فِيهِ) معترضة. قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) الاستفهام للإنكار عليهم مع تقرير ثبوت الحجّة ، وأم : هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة ، أي : بل أيقولون افتراه واختلقه. وقال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو ، أي : ويقولون افتراه ؛ وقيل : الميم زائدة ، والتقدير : أيقولون افتراه ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، ثم أمره الله سبحانه أن يتحدّاهم حتى يظهر عجزهم ويتبين ضعفهم فقال : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي : إن كان الأمر كما تزعمون من أن محمدا افتراه ، فأتوا أنتم على جهة الافتراء بسورة مثله في البلاغة ، وجودة الصناعة ، فأنتم مثله في معرفة لغة العرب ، وفصاحة الألسن ، وبلاغة الكلام (وَادْعُوا) بمظاهريكم ومعاونيكم (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) دعاءه والاستعانة به من قبائل العرب ، ومن آلهتكم التي تجعلونهم شركاء لله. وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بادعوا ، أي : ادعوا من سوى الله من خلقه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أن هذا القرآن مفترى.
وسبحان الله العظيم ما أقوى هذه الحجّة وأوضحها وأظهرها للعقول ، فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية والعربية ، قال لهم : هذا الذي نسبتموه إليّ وأنا واحد منكم ليس عليكم إلا أن تأتوا وأنتم الجمع الجمّ بسورة مماثلة لسورة من سوره ، واستعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم وتباين مساكنهم ، أو من غيرهم من بني آدم ، أو من الجنّ ، أو من الأصنام ، فإن فعلتم هذا بعد اللتيا والتي فأنتم صادقون فيما نسبتموه إليّ وألصقتموه بي. فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف والتنزّل البالغ بكلمة ، ولا نطقوا ببنت شفة ، بل كاعوا عن الجواب ، وتشبثوا بأذيال العناد البارد ، والمكابرة المجردة عن الحجّة ، وذلك مما لا يعجز عنه مبطل ، ولهذا قال سبحانه عقب هذا التحدّي البالغ : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) فأضرب عن الكلام الأوّل ، وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه وما اشتمل عليه ، وهكذا صنع من تصلّب في التقليد ولم يبال لما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف ، بل يردّه بمجرد كونه لم يوافق هواه ، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه ، ويعلم مبناه ،