(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))
لما ذكر الله سبحانه ما تقدّم من متاع الدنيا جاء بكلام مستأنف يضمن بيان حالها وسرعة تقضيها ، وأنها تعود بعد أن تملأ الأعين برونقها ، وتجتلب النفوس ببهجتها. وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضا ، ويهتكوا حرمهم حبا لها وعشقا لجمالها الظاهري ، وتكالبا على التمتع بها ، وتهافتا على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب ، فقال : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) إلى آخر الآية. والمعنى : أن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف يضادّ ما كانت عليه ويباينه ، مثل ما على الأرض ما أنواع النبات في زوال رونقه وذهاب بهجته وسرعة تقضيه ، بعد أن كان غضّا مخضرا طريا قد تعانقت أغصانه المتمايلة ، وزهت أوراقه المتصافحة ، وتلألأت أنوار نوره ، وحاكت الزهر أنواع زهره ، وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) بل ما يفهم من الكلام ، والباء في : (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) للسببية ؛ أي فاختلط بسببه نبات الأرض ، بأن اشتبك بعضه ببعض حتى بلغ إلى حدّ الكمال ، ويحتمل أن يراد : أن النبات كان في أوّل بروزه ومبدأ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع ، فإذا نزل الماء عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) من الحبوب والثمار والكلأ والتبن ، وأخذت الأرض زخرفها. قال في الصحاح : الزخرف : الذهب ، ثم يشبه به كل مموّه مزوّر ، انتهى. والمعنى : أن الأرض أخذت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب ، وبعضه للون الفضة ، وبعضه للون الياقوت ، وبعضه للون الزمرّد. وأصل ازينت : تزينت : أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل لأن الحرف المدغم مقام حرفين أولهما ساكن ، والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ابن مسعود وأبيّ بن كعب : وتزينت على الأصل. وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية : وازينت على وزن أفعلت ؛ أي : ازينت بالزينة التي عليها ، شبّهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألوانا كثيرة. وقال عوف بن أبي جميلة : قرأ أشياخنا وازيانت على وزن اسوادّت ، وفي رواية المقدمي : وازاينت والأصل فيه تزاينت على وزن تفاعلت. وقرأ الشعبي ، وقتادة ازينت ، ومعنى هذه القراءات كلها هو ما ذكرنا. (وَظَنَّ أَهْلُها