وخبره : متاع الحياة الدنيا ، وعلى أنفسكم : مفعول البغي ، ويجوز أن يكون خبره : على أنفسكم ، ويضمر مبتدأ ، أي : ذلك متاع الحياة الدنيا ، أو هو متاع الحياة الدنيا. انتهى. وقد نوقش أيضا بعض هذه الوجوه المذكورة في توجيه الرفع بما يطول به البحث في غير طائل. والحاصل : أنه إذا جعل خبر المبتدأ على أنفسكم ، فالمعنى ، أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه ، وإن جعل الخبر : متاع ، فالمراد أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضا هو سريع الزوال قريب الاضمحلال ، كسائر أمتعة الحياة الدنيا ، فإنها ذاهبة عن قرب متلاشية بسرعة ليس لذلك كثير فائدة ولا عظيم جدوى. ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة مع وعيد شديد فقال : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) وتقديم الخبر للدلالة على القصر ، والمعنى : أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ، ومتاعها ترجعون إلى الله فيجازي المسيئ بإساءته ، والمحسن بإحسانه (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا ، أي : فنخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشرّ ، والمراد بذلك : المجازاة ، كما تقول لمن أساء : سأخبرك بما صنعت ، وفيه أشد وعيد ، وأفظع تهديد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) قال : خوّفهم عذابه وعقوبته. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) قال : استهزاء وتكذيب. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) قال : هلكوا. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والنسائي وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص ما حاصله : أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة ، منهم عكرمة بن أبي جهل ، هرب من مكة وركب البحر فأصابهم عاصف ، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ، فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر الإخلاص ما ينجيني في البرّ غيره ، اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوّا كريما ، فجاء فأسلم. وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والخطيب في تاريخه ، والديلمي في مسند الفردوس ، عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ثلاث هنّ رواجع على أهلها : المكر ، والنكث ، والبغي ، ثم تلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (١) (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) (٢). وأخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تبغ ولا تكن باغيا ، فإن الله يقول : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)». وأخرج أبو الشيخ عن مكحول قال : ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه : المكر ، والبغي ، والنكث ، قال الله سبحانه : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ).
أقول أنا : وينبغي أن يلحق بهذه الثلاث التي دلّ القرآن على أنها تعود على فاعلها : الخدع ، فإن الله يقول : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) (٣) وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي منهما». وأخرج ابن مردويه من حديث ابن عمر مثله.
__________________
(١). فاطر : ٤٣.
(٢). الفتح : ١٠.
(٣). البقرة : ٩.