أصنامهم في الدعاء ، وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده ، بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه. وفي هذا دليل على أنّ الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد ، وأن المضطرّ يجاب دعاؤه وإن كان كافرا. وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة ، وما يشابهها ، فيا عجبا! لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات؟ فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ، ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواترا يحصل به القطع ، فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية ، وأين وصل بها أهلها ، وإلى أين رمى بهم الشيطان ، وكيف اقتادهم وتسلط عليهم؟ حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمع في مثله ولا في بعضه من عباد الأوثان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، واللام في : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) هي اللام الموطئة للقسم ، أي : قائلين ذلك ، والإشارة بقوله : (مِنْ هذِهِ) إلى ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر ، واللام في (لَنَكُونَنَ) جواب القسم ، أي : لنكونن في كل حال ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا ، منها هذه النعمة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا ، وتنجينا منها ؛ وقيل : إن هذه الجملة مفعول دعوا (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها ، وأجاب دعاءهم لم يفعلوا بما وعدوا من أنفسهم ، بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين ، وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر. وإذا في : (إِذا هُمْ يَبْغُونَ) هي : الفجائية ؛ أي : فاجؤوا البغي في الأرض بغير الحق ، والبغي : هو الفساد ، من قولهم بغى الجرح : إذا ترامى في الفساد ، وزيادة : في الأرض ، للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض ، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق ، بل لا يكون إلا بالباطل ، لكن زيادة : بغير الحق ، إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم ، بل تمرّدا ، وعنادا ، لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة. قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) لما ذكر سبحانه أنّ هؤلاء المتقدّم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق ، ذكر عاقبة البغي ، وسوء مغبّته. قرأ ابن إسحاق وحفص والمفضّل بنصب متاع ، وقرأ الباقون بالرفع. فمن قرأ بالنصب جعل ما قبله جملة تامة ، أي : بغيكم وبال على أنفسكم ، فيكون بغيكم : مبتدأ ، وعلى أنفسكم : خبره ، ويكون : متاع ، في موضع المصدر المؤكد ، كأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، ويكون المصدر مع الفعل المقدّر : استئنافا ؛ وقيل : إن متاع على قراءة النصب : ظرف زمان ، نحو مقدم الحاج ، أي : زمن متاع الحياة الدنيا ؛ وقيل : هو مفعول له ، أي : لأجل متاع الحياة الدنيا ؛ وقيل : منصوب بنزع الخافض ، أي : كمتاع ؛ وقيل : على الحال ، على أنه مصدر بمعنى المفعول ، أي : ممتعين ، وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب. وأما من قرأ : برفع متاع ، فجعله خبر المبتدأ ، أي : بغيكم متاع الحياة الدنيا ، ويكون : على أنفسكم ، متعلق بالمصدر ، والتقدير : إنما بغيكم على أمثالكم ، والذين جنسهم جنسكم. متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها ، فيكون المراد بأنفسهم على هذا الوجه : أبناء جنسهم ، وعبر عنهم بالأنفس لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة ، وقيل : ارتفاع متاع : على أنه خبر ثان ؛ وقيل : على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هو متاع. قال النحاس : على قراءة الرفع يكون بغيكم مرتفعا بالابتداء ،