وسيبويه. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي : أعجل عقوبة ، وقد دلّ أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعا ، ولكن مكر الله أسرع منه. وإذا الفجائية : يستفاد منها السرعة ، لأن المعنى أنهم فاجؤوا المكر ، أي : أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة ، وتسمية عقوبة الله سبحانه : مكرا ، من باب المشاكلة كما قرر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) قرأ يعقوب في رواية ، وأبو عمرو في رواية : يمكرون بالتحتية ، وقرأ الباقون : بالفوقية. والمعنى : أن رسل الله وهم الملائكة يكتبون مكر الكفار لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة ، فكيف يخفى على العليم الخبير؟ وفي هذا وعيد لهم شديد ، وهذه الجملة تعليلية للجملة التي قبلها ، فإن مكرهم إذا كان ظاهرا لا يخفى ، فعقوبة الله كائنة لا محالة ، ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدّمة وهي : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) (١) وفي هذه زيادة ، وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض ، بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ضرب سبحانه لهؤلاء مثلا حتى ينكشف المراد انكشافا تاما ، ومعنى تسييرهم في البر أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لهم لينتفعوا بها ويركبون ما خلقه الله لركوبهم من الدواب ، ومعنى تسييرهم في البحر : أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر ، ويسر ذلك لهم ، ودفع عنهم أسباب الهلاك. وقد قرأ ابن عامر وهو الذي ينشركم في البحر بالنون والشين المعجمة من النشر كما في قوله (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) (٢) أي : ينشرهم سبحانه في البحر فينجي من يشاء ، ويغرق من يشاء (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) الفلك : يقع على الواحد والجمع ، ويذكر ويؤنث ، وقد تقدّم تحقيقه (وَجَرَيْنَ) أي : السفن بهم ؛ أي : بالراكبين عليها ، وحتى : لانتهاء الغاية ، والغاية : مضمون الجملة الشرطية بكمالها ، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة : أوّلها : الكون في الفلك ، والثاني : جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة ، وثالثها : فرحهم. والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة : الأوّل : (جاءَتْها) أي : جاءت الفلك ريح عاصف ، أو جاءت الريح الطيبة ، أي : تلقتها ريح عاصف ، والعصوف : شدّة هبوب الريح ؛ والثاني : (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي : من جميع الجوانب للفلك ، والمراد : جاء الراكبين فيها ، والموج : ما ارتفع من الماء فوق البحر ؛ والثالث : (ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي : غلب على ظنونهم الهلاك ، وأصله من إحاطة العدوّ بقوم أو ببلد ، فجعل هذه الإحاطة مثلا في الهلاك ، وإن كان بغير العدو كما هنا ، وجواب إذا في قوله (إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) قوله (جاءَتْها) إلى آخره ، ويكون قوله : (دَعَوُا اللهَ) بدلا من ظنوا ، لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظنّ الهلاك ، وهو الباعث عليه ، فكان بدلا منه بدل اشتمال لاشتماله عليه ، ويمكن أن يكون جملة دعوا : مستأنفة ، كأنه قيل : ماذا صنعوا؟ فقيل : دعوا الله ، وفي قوله : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) التفات من الخطاب إلى الغيبة ، جعل الفائدة فيه صاحب الكشاف : المبالغة. وقال الرازي : الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت ، والتبعيد ، كما أن عكس ذلك في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (٣) دليل الرّضا والتّقريب ، وانتصاب مخلصين على الحال ؛ أي : لم يشوبوا دعاءهم بشيء من الشوائب ، كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون
__________________
(١). يونس : ١٢.
(٢). الجمعة : ١٠.
(٣). الفاتحة : ٥.