و (السَّائِحُونَ) : قيل : هم الصائمون ، وإليه ذهب جمهور المفسرين ، ومنه قوله تعالى : (عابِداتٍ سائِحاتٍ) وإنما قيل للصائم : سائح ، لأنه يترك اللذات كما يتركها السائح في الأرض ، ومنه قول أبي طالب ابن عبد المطلب :
وبالسّائحين لا يذوقون قطرة |
|
لربّهم والذاكرات العوامل |
وقال آخر :
برّا يصلّي ليله ونهاره |
|
يظلّ كثير الذّكر لله سائحا |
قال الزّجّاج : ومذهب الحسن : أنّ السّائحين هاهنا هم الذين يصومون الفرض ؛ وقيل : إنهم الذين يديمون الصيام ، وقال عطاء : السّائحون : المجاهدون. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : السائحون المهاجرون. وقال عكرمة : هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم. وقيل : هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم ، وملكوته ، وما خلق من العبر ، والسّياحة في اللغة أصلها : الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء ، وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق ، ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه ، و (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) معناه : المصلون ، و (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) : القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : القائمون بالإنكار على من فعل منكرا ، أي : شيئا ينكره الشرع (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) : القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها في كتبه وعلى لسان رسله ، وإنما أدخل الواو في الوصفين الآخرين ، وهما : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ) إلخ ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنزلة خصلة واحدة ، ثم عطف عليه الحافظون بالواو لقربه ؛ وقيل : إن العطف في الصفات يجيء بالواو وبغيرها كقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) (١) ؛ وقيل : إن الواو زائدة ؛ وقيل : هي واو الثمانية المعروفة عند النحاة ، كما في قوله تعالى : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (٢) ، وقوله : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) (٣) ، وقوله : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) (٤) ، وقد أنكر : والثمانية ، أبو علي الفارسي ، وناظره في ذلك ابن خالويه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الموصوفين بالصّفات السابقة.
وقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : «قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، قال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : الجنة ، قال : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : «أنزلت هذه الآية على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو في المسجد : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) فكبّر الناس في المسجد ، فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال : يا رسول الله! أنزلت هذه الآية؟ قال : نعم ، فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل». وقد أخرج ابن سعد عن عبادة بن الصامت أن النبي صلىاللهعليهوسلم اشترط في بيعة العقبة على من بايعه
__________________
(١). غافر : ٣.
(٢). التحريم : ٥.
(٣). الزمر : ٧٣.
(٤). الكهف : ٢٢.