الاشتراء المذكور ، كأنه قيل كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل : يقاتلون في سبيل الله ، ثم بين هذه المقاتلة في سبيل الله بقوله : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) والمراد : أنهم يقدمون على قتل الكفار في الحرب ، ويبذلون أنفسهم في ذلك ، فإن فعلوا فقد استحقّوا الجنة ، وإن لم يقع القتل عليهم بعد الإبلاء في الجهاد والتعرّض للموت بالإقدام على الكفار. قرأ الأعمش والنّخعي وحمزة والكسائي وخلف : بتقديم المبنيّ للمفعول على المبنيّ للفاعل. وقرأ الباقون بتقديم المبني للفاعل على المبني للمفعول. وقوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) إخبار من الله سبحانه : أن فريضة الجهاد استحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله في التوراة والإنجيل ، كما وقع في القرآن ، وانتصاب وعدا وحقا : على المصدرية ، أو الثاني نعت للأوّل ، وفي التوراة : متعلّق بمحذوف ؛ أي : وعدا ثابتا فيها. قوله : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) في هذا من تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد ، والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال ما لا يخفى ، فإنه أوّلا أخبر بأنه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة ، وجاء بهذه العبارة الفخيمة ، وهي كون الجنة قد صارت ملكا لهم ، ثم أخبر ثانيا بأنه قد وعد بذلك في كتبه المنزّلة ، ثم أخبر بأنه بعد هذا الوعد الصادق لا بدّ من حصول الموعود به ، فإنه لا أحد أوفى بعهده من الله سبحانه ، وهو صادق الوعد ، لا يخلف الميعاد ، ثم زادهم سرورا وحبورا ، فقال : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) أي : أظهروا السرور بذلك ، والبشارة : هي إظهار السّرور ، وظهوره يكون في بشرة الوجه ، ولذا يقال : أسارير الوجه ، أي : التي يظهر فيها السّرور. وقد تقدّم إيضاح هذا ، والفاء لترتيب الاستبشار على ما قبله. والمعنى : أظهروا السرور بهذا البيع الذي بايعتم به الله عزوجل فقد ربحتم فيها ربحا لم يربحه أحد من الناس ، إلا من فعل مثل فعلكم. والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الجنة ، أو إلى نفس البيع الذي ربحوا فيه الجنة ، ووصف الفوز وهو : الظفر بالمطلوب ، بالعظم : يدل على أنه فوز لا فوز مثله. قوله : (التَّائِبُونَ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم التائبون ، يعني : المؤمنون ، والتائب : الراجع ، أي : هم الراجعون إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعة. وقال الزجاج : الذي عندي أن قوله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) رفع بالابتداء ، وخبره مضمر ، أي : التائبون ومن بعدهم إلى آخر الآية لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا. قال : وهذا أحسن ، إذ لو كانت هذه أوصافا للمؤمنين المذكورين في قوله : (اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لكان الوعد خاصّا بمجاهدين. وقد ذهب إلى ما ذهب إليه الزجاج : من أن هذا الكلام منفصل عما قبله ، طائفة من المفسرين ، وذهب آخرون إلى أن هذه الأوصاف راجعة إلى المؤمنين في الآية الأولى. وأنها على جهة الشرط ، أي : لا يستحق الجنة بتلك المبايعة إلا من كان من المؤمنين على هذه الأوصاف. وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «التّائبين العابدين إلى آخرها» وفيه وجهان : أحدهما : أنها أوصاف للمؤمنين. الثاني : أن النصب على المدح. وقيل : إن ارتفاع هذه الأوصاف على البدل من ضمير يقاتلون ، وجوز صاحب الكشاف : أن يكون التائبون مبتدأ ، وخبره العابدون ، وما بعده أخبار كذلك ، أي : التائبون من الكفر على الحقيقة ، الجامعون لهذه الخصال. وفيه من البعد ما لا يخفى ، والعابدون : القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص ، و (الْحامِدُونَ) : الذين يحمدون الله سبحانه على السراء والضراء ،