جماعة من التابعين في ذكر سبب نزول الآية نحو هذا. ولا يخفاك أنّ بعض هذه الأحاديث ليس فيه تعيين مسجد قباء وأهله ، وبعضها ضعيف ، وبعضها لا تصريح فيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء ، وعلى كل حال لا تقاوم تلك الأحاديث المصرحة بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم في صحتها وصراحتها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) قال : يعني قواعده في نار جهنّم. وأخرج مسدد في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : لقد رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار ، حيث انهار على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي في الدّلائل ، عن ابن عباس في قوله : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) قال : يعني : الشك (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) يعني : الموت. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن حبيب بن أبي ثابت. في قوله (رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) قال : غيظا في قلوبهم (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قال : إلى أن يموتوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قال : إلا أن يتوبوا.
(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))
لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلّفهم عن غزوة تبوك ، وذكر أقسامهم ، وفرّع على كلّ قسم منها ما هو لائق به عاد على بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه ، وذكر الشراء تمثيل كما في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) (١) مثل سبحانه إثابة المجاهدين بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله بالشراء ، وأصل الشراء بين العباد : هو إخراج الشيء عن الملك بشيء آخر ، مثله أو دونه ، أو أنفع منه ، فهؤلاء المجاهدون باعوا أنفسهم من الله بالجنة التي أعدها للمؤمنين ، أي : بأن يكونوا من جملة أهل الجنة ، وممن يسكنها ، فقد جادوا بأنفسهم ، وهي أنفس الأعلاق (٢) ، والجود بها غاية الجود :
يجود بالنفس إن ضنّ الجبان بها |
|
والجود بالنفس أقصى غاية الجود |
وجاد الله عليهم بالجنة ، وهي أعظم ما يطلبه العباد ، ويتوسلون إليه بالأعمال ؛ والمراد بالأنفس هنا : أنفس المجاهدين ، وبالأموال : ما ينفقونه في الجهاد. قوله : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) بيان للبيع يقتضيه
__________________
(١). البقرة : ١٦.
(٢). قال في القاموس : العلق : النفيس من كل شيء ، ج أعلاق ، وعلوق.